صار ذلك اعتيادًا فلا يهيج الغيظ، وإن هاج فلا يكون في كظمه تعب، وانكسار قوة الغضب وخضوعها للعقل، وإذا عرفنا الفرق بين الحلم وكظم الغيظ، فإنه يقابلهما: الغضب. مدح الحلم والعفو:
قال تعالى: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾[3]. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشجع عبدالقيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة»[6]. أمثلة من حلمه صلى الله عليه وسلم وعفوه:
نقف في هذه الفقرة أمام بعض الأمثلة من حلم النبي صلى الله عليه وسلم، فاستيعابها أمر صعب وما نشك أنه كان له في كل يوم من حياته حدث يظهر فيه حلمه. أخرج الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كنتُ أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، وتوضح لنا روايات مسلم مقدار قوة تلك الجذبة:
فقد جاء في رواية له: ثم جذبه إليه جذبة، رجع نبي الله صلى الله عليه وسلم في نحر الأعرابي. وحتى بقيت حاشيته في عتق رسول الله صلى الله عليه وسلم[7]. وإن مجرد تصور الموقف في هذه الحادثة يبين كم كان حلمه صلى الله عليه وسلم عظيمًا. أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟
قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، لتأمره بما شئت فيهم. إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، كان هذا اليوم أشد على النبي صلى الله عليه وسلم من يوم أحد. وجرح وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه، ومع هذا كان يوم الذهاب إلى الطائف أشد عليه صلى الله عليه وسلم من يوم أحد، وأغروا به سفهاءهم وصبيانهم يضربونه بالحجارة حتى خرج. والأخشبان جبلان بينهما مكة، وإطباقهما يعني دمار مكة بمن فيها. على أمل أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله. وجاء زيد بن سعنة - قبل إسلامه - يطلب النبي صلى الله عليه وسلم بدين، ثم قال: إنكم يا بني عبدالمطلب قوم مطل. وشدد له في القول والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا وهو كنا إلى غير هذا أحوج منك يا عمر، تأمرني بحسن القضاء وتأمره بحسن التقاضي». ثم قال: «لقد بقي من أجله ثلاث» وأمر عمر أن يقضيه ماله، يقول زيد - وهو من اليهود -: ما بقي من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في محمد إلا اثنتين لم أخبرهما: يسبق حلمه جهله، ولذلك كان غليظًا في قوله: غليظًا في فعله، ومع ذلك يسعه حلم النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر له بتعويض مقابل ما أصابه من قول عمر. تلك أمثلة تجاذبها حلم النبي صلى الله عليه وسلم وعفوه، فهي بمقدار ما تحمل من بيان الحلم، فإنها أيضًا تبين عفوه صلى الله عليه وسلم وتسامحه. نقف أمام مثال من أمثلة كثيرة على مقدار هذا العفو وسعته. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لما مات عبدالله بن أبي ابن سلول، دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت إليه فقلت: يا رسول الله، أتصلي على ابن أبي؟! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أخِّر عني يا عمر» فلما أكثرت عليه، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها». قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرًا حتى نزلت الآيتان من براءة ﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا ﴾[10]. قال: فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، ابتداء من هجرته صلى الله عليه وسلم إلى وفاة ابن سلول في أواخر السنة التاسعة. إن عبدالله بن أبي لم يأل جهدًا طوال حياته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثارة المشكلات والتعاون مع اليهود. وإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، وما رجوعه يوم أحد بمن تبعه بالأمر الهين، إنه سجل حافل مليء بالمخازي. التي أُتْعِبَ فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ومع هذا كله يعفو عنه صلى الله عليه وسلم وينسى ذلك كله - وهي أمور لا تنسى - ويصلي عليه، ويقول وهو حريص على نجاته من النار «لو أعلم أني إن زدت على السبعين له لزدت عليها». يحتاج إدراك أبعادها إلى أناة وروية في استعراض تسع سنوات مليئة بالأحداث التي كان فيها النفاق برئاسة ابن أبي لا يدخر وسعًا في الصدِّ عن سبيل الله. فإذا استطعنا أن نجمع ذلك إلى بعضه، عندها فقط نستطيع معرفة مقدار هذا العفو. كان صلى الله عليه وسلم حريصًا على نجاته من النار، لأن الله تعالى أرسله رحمة للعالمين. حيث أخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يمنعه[13]. والعفو لا يكون إلا بترك المؤاخذة في الحقوق، وبعدم الانتقام في الإساءات ولم يذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه انتقم لنفسه في يوم من الأيام. عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها»[14]. وفي رواية: «وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط»[15]. وعنها رضي الله عنها قالت: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط بيده، فينتقم لله عزَّ وجلَّ»[16]. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، وعنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الشديد بالصرعة، وهكذا تكون البطولة أن يتحكم الإنسان بنفسه، وقد أكد هذا حديثُ ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فما تعدون الصُّرعة فيكم؟» قال: قلنا: الذي لا يصرعه الرجال، وواصف العلاج هو الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فلا شك بأنه علاج ناجع. عن سلمان بن صرد رضي الله عنه، قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسبُّ صاحبه مغضبًا قد احمرَّ وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم كلمة، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: إني لست بمجنون[20]. قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، ولكن هذا الغضب لا يكون لأجل دنيا فاتته، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال: «بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة، قال: فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله» قلت: يا رسول الله، قال: «أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله» قال: فما زال يكررها عليَّ، حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم»[23]. وقول أسامة: «حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم» تبين لنا كم كان غضبه صلى الله عليه وسلم بسبب هذه الحادثة. وعن عبدالله بن عمرو قال: هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب، فقال: «إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب»[24]. وعن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه سلم رأى نخامة في القبلة، أو، إن ربَّه بينه وبين القبلة، ثم رد بعضه على بعض،