الإِنْسانِيَّةُ تُلامِسُ الجَمِيعَ في الجهة المقابلة لمقر عَمَلي، وكالعادة، وَقَدَمَيْنِ هَزِيلَتَيْنِ لا تَصْلِحانِ لِغَيْرِ التَّمَدُّدِ وَالاسْتِلْقاء. يَرْتَدِي رَأْسَهُ كَحُوذَةٍ تَقِيهِ صَلابَةَ الحَائِطِ الَّذِي اسْتَنَدَ إِلَيْه وَيُخَبِّئُ جوارَهُ كيسًا صَغِيرًا يَدُسُ فِيهِ يَدَهُ بَيْنَ حِينِ وَآخَرَ لِيُخْرِجَ عَقِبَ سيجارَةٍ كَانَتْ قَدْ أَوْ شَكَتْ عَلى النّهاية لَوْلا أَنَّهُ قام بالتقاطها مِنْ تَحْتِ قَدَمٍ أَحَدِهِم. لَمْ يَعْتَدْ ذَلِكَ المُسِنُّ عَلى زيارة أَحَدٍ مُذْ فَقَدَ بَيْتَهُ بِرَهْنِ عَقاري خاسِرٍ كَحَالِ الكَثيرِينَ فَأَصْبَحَ مُشَرَّدًا مِنْ دُونِ سَقْفِ يَأْوِيهِ أَوِ ابْنِ يَسْأَلُ عَنْهُ. وَكَانَ زَائِرُهُ الوحيدُ الَّذِي يَطْرُقُ بابَ وَحْشَتِهِ وَيُضْطَرُّ إِلى تَرْكِ مَكانِهِ للترحيب به هو برد الشتاء في بداية شهر نوفمبر" مِنْ كُلِّ عام. ذاتَ مَرَّةٍ وَبَيْنَمَا كُنْتُ أَنظُرُ بِاتِّجَاهِ ذلك المُسن من نافذة المكتب الزجاجية، لَمْ تَمْضِ أَيام قليلة على تلك المحادثة، وإذا بزميلتي مَرَّةً أُخْرَى، لَكِنَّهَا جَاءَتْ هَذِهِ المرةَ مُرْتَبكَةً وَقَدْ بَدَتْ مَلامِح الحزن على وجهها، ثم قالَتْ مُتَلَعْثِمَة : "أَتَذْكُرُ ذلك المسن المشرد؟! لَقَدْ وَجَدُوهُ مَيْتًا صَبَاحًا بَيْنَمَا كَانَ يَعْضُ عَلَى آخرٍ كَسْرَةٍ خُبْرٍ في حَوْزَتِه". وَأَرْدَفَتْ قائلة: "ما يؤْلَمُني حَقًّا أَنَّ هَذَا الإنسانَ قَاوَمَ الحَيَاةَ بِكُلِّ مَا لَدَيْه، وحينما انتهى مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ قَاوَمَ بِأَسْنانِهِ". اسْتَفَزَّتْ تلك الحادثة إنسانيتي، وأيقظَتْ في داخلي كَما مِنَ الأسئلة المُحَيِّرَةِ: " هَلْ كَانَ ذلك المسن المَغدور هو المشرّد الوحيد في هذا العالم؟ ماذا عن البقيَّةِ الَّذِينَ يَعيشون الظروف والأحوال نفسها؟" وَعِنْدَما وَصَلْتُ أبْطاتُ سُرْعَتِي وَأَنا أُرَدِّدُ فِي نَفْسِي: "يا للأرْبَعِين شبيها لذلك المسن، يا للألْفِ شَبيه لذلك المسن " ، حَتَّى أَنَّنِي حِينَ قَرَرْتُ التَّوَقُفَ لمْ يُسعفني الدهولُ مِنْ عَدَ الأيادي التي امْتَدَّتْ نَحْوِي عَبْرَ نَوافِذِ السَّيَارَةِ طَلَبًا للمعونة وَأَنَا لَمْ أَكُنْ قَدْ تَهِيَأْتُ مُسْبَقًا لِتَقْدِيمِ أَي أَمْرٍ لهؤلاء، لَكِنَّ وَجْبَةَ الغَدَاءِ الَّتِي اشْتَرَيْتُهَا قَبْلَ وصولي إلى هناك كانت ما تزال على حالها، فَمَلامِح ذلك المُحتاج كانت تشير بالكثير من السعادةِ لِفَوْزِهِ بِتِلْكَ الغَنِيمَة! في الحَقِيقَةِ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَقَطْ مَنْ شَعَرَ بِتلك السَّعادةِ العَامِرَة، ذَلِكَ المفهومُ الكَبِيرُ لِمَعْنَى التَّطوع في خدمة المجتمع والإنسان. للخير. وكانَتِ الإجابة في الوجوه التي تُحَدِّقُ بِي مِنْ كُلِّ حَذَبٍ وَصَوْب . بمقدوري أن أستشف منها رجاءاتِ البَقَاءِ وَأَمْنِياتِ العودةِ كَيْلا تُتَرَكَ أَكُفُهُمْ وَحْدَهَا فِي قَاعِ هَذَا الفَقْر. أَتَعْلَمُونَ أَنَّ هذه الوجوه الفقيرة البائسة يُمْكِنُها أَنْ تَهَبَكَ السَّعادَةِ؟ وَالفَرَحَ الَّذِي لا الآنَ وَبَعْدَ مُرورِ سَنَتَيْن، مع الإنسانية. يَجْتَمِعُ بأصدقائِهِ مِمَّنْ تَطَوَّعوا مَعَهُ من محيط العمل والأصدقاء على رأس كل أسبوع ليقدموا إلى