في الليل الموحش العتم كانوا يتمترسون خلف الأكياس الرملية على الشاطئ، أيديهم ممسكة بالبنادق العتيقة (أبو فتيل) وبالسيوف الحادة، وونيسهم الوحيد موسيقى تبعثها الرياح الخريفية عبر أمواج البحر.وهناك بعيداً بعيداً تنتصب على الرمال البيوت السعفية والطينية – وآخر أطلالها هذا الجدار – تختزن صدى البكاء والعويل على القتلى والجرحى بتلك النيران، يرميها ذلك الشيء المخيف الرابض في كبد البحر. كان الوحش يرسل جراثيمه بين الحين والآخر، عبر قوارب تجديف تتسلل إلى الشاطئ وتنشر الذعر والخوف.الرجال صامدون يحركهم مصير واحد، فالشهادة مطلب في مواجهة الغريب الذي جاء ينهب ويسرق ابتسامة تأبى أن تفارق الأرض الرائحتها عطاء دائم، ودروبها خطوات العاشقين في الليالي القمرية. وفي تلك اللحظة وصلت لأهنأ بالراحة بعد سهر الليالي في الحفر الرطبة.امتلأت السكك السعفية بالروائح العفنة. أبدت الكلاب استياءها للأعمال القذرة وهي تجرى عبر الأزقة باتجاه ذلك الوحش. أحسست بالدم يتصاعد في عروقي.خطوت بسرعة في الزقاق الرطب المؤدي إلى المنزل السعفي ذي الحضن الدافئ والابتسامة البريئة. أسرعت عندما مرّ أحد القوم وهو يردد (لا حول ولا قوة إلا بالله). وعندما وصلت إلى نهاية الزقاق. وقفت عندئذ ولم أجرؤ على السؤال فقد كان الجواب ماثلاً أمامي. تسابقت أيدي القوم تربت على كتفي وتواسيني (أحسن الله عزاك يابو عبدالله)، أمسكت أحد الرجال بكلتا يدي وهززته بعنف:لزم الرجل الصمت مرتمياً على صدري. انفجر باكياً وهو يردد (أحسن الله عزاك فيهم). اغرورقت عيناي واحتضنته بكل قوتي وضغطت بجسمه على صدري. خنقت بداخلي الصرخة الحادة، تقدم أحدهم: كنا نطفئ حريقاً. وإذا بنا نشاهد تصاعد اللهب قريباً من دارك. وإذا بالنار قد أتت على الخيمة التي كان فيها الأولاد وأمهم، اتكأت على أكتاف من كان بجانبي. حرارة المكان تلفحني وتزيد دمي غلياناً، اقتربت من الجثث الملقاة على بقايا السعف الذي تم إنقاذه. جثوت على ركبتي والعرق ينضح من جسدي بغزارة. نزعت الغطاء ببطء وإذا برائحة اللحم المحترق تخنقني. نهضت واقفاً على قدمي المرتجفتين. تناولت بيدي حفنة من الرماد الساخن. أحسست بحرارته وأنا أقدمه للرجال والألم يتفجر فـيَّ ويفتك بأوصالي وتتدفق من عيني دموع ما لها من قرار:واختنقت بالنشيج والغضب، كيف أقول لهم إن هذه القبضة من الرماد هي الحياة التي خنقت، وأغاني المراجيح وضحكات العاشقين والسمار في الليالي الجميلة وقد تحولت رماداً أسود؟انشغلنا في إعداد الجثث لدفنها في الصباح الباكر بعد صلاة الغائب، انفردت بعدها على كومة من الرمال على بعد خطوات من الشاطئ. تداعت في مخيلتي صورة الأم والأولاد والحكايات الحلوة على (المنامة) المزروعة وسط ذلك المنزل. افترشت قطعة قماش هندية كنت أضعها على رأسي (غترة). زرعت وجهي في حضن الرمال. ثم استلقيت وعيناي مشدودتان تجاه ذلك الوحش، انهالت مطرقة الأفكار على رأسي. (مبارك… (الشاحوف)… أجل الشاحوف. لا بد أن يرحل قبل أن أواريهم التراب). حيث يرسو شاحوف مبارك الذي اتخذ منه مسكناً ووسيلة لرزقه.ركضت عبر الظلمة فوق الأحجار وبقايا عظام الأسماك. تراءى لي الشاحوف يتراقص مع الأمواج الصغيرة، لفحتني نسمات الخريف الآتية من البراري وأنا أنزلق إلى الماء لأجذب الشاحوف، قفز مبارك من نومه مرعوباً على أثر ارتطام الشاحوف برمال الشاطئ.وثبت على (الفنّة) ونزلت في (الخن) وأخذت أبحث عن سكين بين أكوام (الشبا).– من…؟ أبو عبدالله.تناولت طرف القماش الذي كان يلتحف به مبارك ومسحت السكين من بقايا الأسماك والأعشاب البحرية. أترى ذلك الوحش الذي انهال علينا بنيرانه المحرقة.سكت مبارك ولم يرد بكلمة واحدة، وكأنه شعر أن الأمر لا يعدو أن يكون دعابة عابرة.– وكيف يا بو عبدالله وهو يدمر كل شيء وها قد مرت عشرة أيام ولم يبق من البلد إلا أطلالها. وضعتها على السطح الأمامي. ودفعت بالشاحوف إلى أعماق البحر.– ما عليك يا مبارك الآن إلا أن توصلني إلى ذلك الوحش.– أعرف أن الشاحوف صغير والأمواج بدأت ترتفع، لكنها الفرصة الوحيدة التي ستساعدنا للوصول بقربه دون أن يشعروا. استمر في التجديف والزم الصمت حتى نصل.بدأنا نضرب تلك المجاديف بخفة وتناسق والشاحوف يمخر عباب المياه بانسياب. خرجنا إلى عرض البحر، حيث الأمواج السريعة الانكسار، واستمر الشاحوف بالانزلاق وسط الصمت حتى اقتربنا. يتراءى لنا عبر الأفق كأنه الجبل المارد. ابتعدنا قليلاً حتى يهجعوا للنوم.– لم تخبرني يا بو عبدالله عما أنت مقدم عليه؟– اسمع يا مبارك بعد أن يناموا سأسبح حتى ذلك الوحش.– أبو عبدالله إن هذا لجنون.– يقولون إنهم أقوياء وأبدانهم حمراء ومكتملو البنية وإنهم يملكون المعرفة بكل شيء، وهل تستكثر عليّ هذا العمل والرجال يقدمون أرواحهم؟– حالما أنزل ابتعد بالشاحوف وعد إلى الشاطئ، ولا تخبر أحداً وأنا سأتدبر أمري وأعود سابحاً. رائحة الحريق والرماد السعفي تتفاعل بدمي وتثير فـيَّ عطش اللحظة التي سأطفئ فيها نار الخراب. خلعت الفانيلة و(الوزار) . لبست سروال مبارك الذي يستخدمه في الغوص، نزلت إلى الماء بعد أن ثبتّ السكين بالحزام الذي هو عبارة عن خيوط صوفية محاكة بإتقان، تقدمت سباحة عبر تلاطم الأمواج. سرت فـيَّ رعشة عندما لامست رجلاي هيكله الحديدي البارد. لكن سرعان ما استدركت إحساسي أن مبارك يراقبني. بعد أن اقتنصت فرصة نومهم جميعاً. تسلقت بواسطة حبل المرساة وضربات قلبي تزداد قوة، وبعد جهد مشوب بالحذر وضعت قدميّ على السطح. وهو يتحرك في الظلام جيئة وذهاباً في خطوات منسقة ووقع أقدامه يثير فـيَّ الرعب. تقدمت إلى (الغمارة) وإذا بي أشاهد حارساً على بابها وهو أمر لم أكن أتوقعه. افترسني الخوف بيد أنه لم يكن لي خيار. تسللت إليه بحذر وبادرته بضربة قوية بالسكين في صدره. كتمت أنفاسه بيدي الأخرى وسقط متكئاً على ذراعي. دخلت بعدها الغرفة وإذا بجسد رجل ضخم البنية طويل القامة، سيطر عليّ الخوف وتوجست في حقيقته. ربما لا يكون القائد بعينه. صور المآسي والحرائق والأطفال اليتامى والمراجيح التي شنقت عليها الأغاني. هويت بيدي المرتجفة بالسكين على صدره، وحبست أنفاسه بمخدة قطنية منعاً للضوضاء والصراخ. شعر الحارس بالأمر وشاهدته يقترب من خلال الأفق البعيد.أسرعت باتجاه الباب متعثراً بأكوام الحبال. قفزت إلى البحر غائصاً في الأعماق وهواجس الخوف والارتباك تملك مني النواصي. وحالما طفوت إلى السطح أمطرني الجنود برصاص بنادقهم. فقدت على إثرها قواي، غير أنني ظللت أصارع الأمواج وألم الجرح حتى ارتطمت بالشاطئ. زحفت على الرمال متلبساً بهستيريا لم أحتملها.حملقت بالوجوه المحيطة. وإذا بمبارك واقف والابتسامة تملأ ثغره ودموعه الساخنة تنثال على وجهه. امتدت أيدي القوم وعبارات الأسى تعلو الأفواه المكلومة، حملوني إلى الحي الحزين والجرح ينزف بغزارة.كأني بالكلمات المحفورة على الجدار القديم تتحرك، وتنطق لكل الأجيال أن هذا الجدار يعرف حكاية أبو عبدالله . وتحته تم غسل جثة أبو عبدالله. وتحته أيضاً قال أبو عبدالله للرجال (ألم أقل لكم إن الوحش لا بد أن يرحل). وتحت هذا الجدار احتضنت أبو عبدالله، وبكيت على صدره كثيراً عندما شاهدت الوحش يرحل. وأنا الآن أناهز التسعين عاماً ولا يحلو لي ظل للراحة إلا. والقوم اليوم يسخرون مني ويطلقون عليّ «مبارك عاشق الجدار القديم» ولا يدركون أنه على هذا الجدار. رأيت المطوع إبراهيم يكتب آخر عبارة نطق بها أبو عبدالله…