استغلَّت دولة الاحتلال الإسرائيلي الانقسامات القُطريَّة ، والتهاء الدُّول العربيَّة بصراعات أخرى ، بما يجعل الخيار الأفضل للدُّول العربيَّة التَّسليم بالأمر الواقع وقبول التَّصالح معها. لن ننسى أنَّ العداء المُعلن بين الكيانين الصُّهيوني والصَّفوي مجرَّد حرب كلاميَّة ، وأنَّ مشروعي الكيانين في المنطقة وجهان لعملة واحدة ، وأنَّ العدوان الصَّفوي على العراق ولبنان سوريا واليمن ما هو إلَّا وسيلة لإلهاء العرب من أهل السُّنَّة عن مواجهة العدوان الصُّهيوني(74). سهُل على دولة الاحتلال فرض التَّطبيع مع الدُّول المسلمة والعربيَّة ، العسكريَّة والأمنية والسياسيَّة والاقتصاديَّة والأيديولوجيَّة(75) ، وبما أنَّ دولة الاحتلال تحتاج إلى الاستراحة بين العمليَّات العسكريَّة ، فهي تتَّبع استراتيجيَّة للتَّوسُّع الاستعماري ، تخوِّلها باختراق دول المنطقة اقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا وأمنيًّا ، مع ضمان تأمين حدودها في مواجهة المقاومة المسلَّحة ضدَّها ، حيث تشترط اتِّفاقيَّات التَّطبيع أن تمنع السُّلطات الحاكمة في الأنظمة المطبعة المقاومة الجماهيرية ضدَّ دولة الاحتلال ، يُعتبر الملفُّ الأمني الأكثر حساسية بالنسبة إلى دولة الاحتلال في مساعيها لإنهاء الخصومة مع محيطها الإسلامي والعربي ، تعي جيدا أن تحالُف الدُّول المسلمة والعربيَّة في مواجهتها فيه نهايتها. بادرت دولة الاحتلال بتنفيذ قرار الأمم المتَّحدة رقم 242 ، بعد احتلال قطاع غزَّة وشبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان والضَّفَّة الغربيَّة لنهر الأردن ، بما يشمل القُدس وتسعى دولة الاحتلال إلى وأْد أي تفوُّق عسكري عربي أو وَحدة دفاعيَّة بين جيوش المنطقة ، مع الاحتفاظ بتفوُّقها في التَّسلُّح. وقد كان للدَّعم الأمريكي لدولة الاحتلال فضلٌ كبير في الحفاظ على أمنها : عملت الولايات المتَّحدة على إضعاف القدرات العسكرية العربية ، وإبقاء أمن الدول العربية عند أدنى مستوى من التسلح ، ونزع سلاح المقاومة ، ومناطق محدودة القوات والسلاح داخل الأراضي العربية، وتؤدي المناطق المنزوعة السلاح إلى تسهيل احتلالها بواسطة القوات "الإسراائيلية" وإقامة مناطق حظر الطيران ، وبخروج دولة الاحتلال الإسرائيلي من دائرة الصراعات العسكريَّة وإنهاء التَّهديد الأمني الإسلامي العربي، وفي ذلك ما يدعم مكانتها ال سياسيَّة على المستويين الإقليمي والعالمي. ولا شكَّ في أنَّ في التَّطبيع اعتراف رسمي من دول المنطقة بشرعية دولة الاحتلال ، ينفي عنها صفة الكيان الاستعماري المغتصب لأراضي الغير، ويقضي على مساعي الفلسطينيين لتحرير أرضهم ، أو حتَّى تأسيس دولة مستقلَّة على جزء منها. وقد تراجع الموقف العربي في معارضته للتَّفاوض مع دولة الاحتلال، الَّتي نصَّ عليها البيان الختامي لقمَّة الخرطوم ، الَّتي عُقدت في العاصمة السُّودانيَّة في 29 أوت1967 لمناقشة سُبل الرد على العدوان الإسرائيلي على الأراضي العربيَّة ، بدأ الحديث عن ضرورة اعتبار دولة الاحتلال أمرا واقعا و "حتميَّة تاريخيَّة يُترك أمر التَّكيُّف معها إلى الزَّمن(78)" ، من هنا انطلقت مبادرات السَّلام بين الدُّول العربيَّة ودولة الاحتلال ، ومساعي تدشين علاقات دبلوماسيَّة واقتصاديَّة معها ، وكان للضُّغوط الأمريكيَّة دورها في دفع الدُّول العربيَّة إلى التراجع التَّدريجي في مواقفها تجاه الكيان الصُّهيوني. غير أنَّ الاعتراف الإسلامي والعربي بدولة الاحتلال يشتمل على شق يتعارض مع الشَّريعة الإسلاميَّة ، بموجب قول الله تعالى ﴿ إنَّ الأَرض لِلَّهِ يُورِّثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِّينَ ﴾ ]سورة الأعراف 128]. يُضاف إلى ذلك أنَّ عودة اليهود إلى الأرض المقدَّسة، الَّتي تعترف بحق النَّصارى في الإقامة في القُدس، ولذلك منافعه الاقتصاديَّة الكبيرة ، بعد تقنين التَّعاون التُّجاري بين الطَّرفين ، وإطلاق يد دولة الاحتلال في السَّيطرة على ثروات المنطقة. وترتبط دولة الاحتلال بعلاقات تجاريَّة قويَّة بكافَّة الدول الغربيَّة ، ولها تعاملاتها مع كبرى الكيانات الاقتصاديَّة العالميَّة، لكنَّ مقاطعة دول الجوار لها تجاريًّا تعرقل تحقيقها مزيدا من المنافع. في أعقاب إبرام اتّفاقيَّات أبراهام مع الإمارات والبحرين أواخر عام 2020. وقد كان من تبعات التَّطبيع الإسرائيلي الإماراتي تدشين مشروع الممر الاقتصادي بين الهند والشَّرق الأوسط و أوروبا ، ومنه إلى أوروبَّا(80). في 10 سبتمبر 2023 ، بعد توقيع اتفاقيَّة تعاوُن بين الولايات المتحدة والسعودية والإمارات والاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا وإيطاليا . وقد أبرمت دولة الاحتلال مع مصر والأردن ، اتِّفاقيَّات تجاريَّة لتبادُل المنتجات الزِّراعيَّة والصناعيَّة والاستفادة من الخبرات العلميَّة من خلال تشكيل تحالفات اقتصاديَّة إقليميَّة بزعم إنهاض الدُّول الفقيرة من كبوتها وإنعاش اقتصاداتها ، تسعى دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى شل قدرة الدُّول العربيَّة على النُّموِّ وتحقيق الوفرة الَّتي تغنيها عن التَّبعيَّة للغرب والرُّضوخ لإملاءاته(81). ومنها مؤتمرات التَّعاون الاقتصادي للشَّرق الأوسط وشمال إفريقيا ومنتدى غاز شرق المتوسط. وتأتي الهيمنة على ثروات المنطقة على رأس أهداف التَّطبيع : من بين أهم أهداف التَّطبيع هو الهدف الاقتصادي اذي يتمثل في السَّيطرة على ثروات الوطن العربي ، وتكريس التَّخلف الاقتصادي العربي ، وكذلك الثَّروات العربيَّة النفطية والمعدنية والزراعيَّة للخارج ، والتَّضييق على برامج التَّكامل الاقتصادي وتعطيلها ، وإيجاد حالة المقاطعة الاقتصادية العربية العربية ، وإفساح المجال أمام سريان مفعول التَّجزئة على صعيد الاقتصاد والإنتاج ،