عندما نقوم بتحليل نشاط الأفراد وأذواقهم في بيئة معينة ، تنتقل فيما بينهم كابرا عن كابر ، فهناك وراثة اجتماعية ، كما أن هناك وراثة جسمية . إن ألوان نشاط الفرد وأفكاره في كل مجتمع تنسج دائما على منوال الوراثة ، ويكفينا أن ننظر إلى طفل يلعب لكي ندرك أهمية الوراثة الاجتماعية ، فإذا ما درسنا أوجه النشاط في بلد معين ، ويشكل فيها الفرد دائما أفكاره وضروب نشاطه على المنوال الذي صنعته القرون والأجيال . وعليه فليس من باب اللعب بالألفاظ ، أن نقرر هنا أن العالم الإسلامي لا يعيش الآن في عام 1949 م ، لأنه يسجل نقطة انطلاق في ( تطور تاريخي ) ترجع إليه سائر مشكلات العالم الإسلامي . وهي لحظة انقلاب القيم داخل حضارة معينة . بل عن العو امل الإنسانية المتمثلة في عجز الناس تطبيق مواهبهم الخاصة على التراب والوقت . إن التركيب الأساسي نفسه قد تحلل فتحللت معه الحياة الاجتماعية ، ثم يبدأ تاريخ الانحطاط بإنسان ما بعد الموحدين ، لقد كانت أعراض الانهيار العام تشير إلى نقطة الانكسار في المنحنى البياني . فإذا نظرنا إلى هذا الوضع نظرة اجتماعية ، لم تكن إلا تعبيرا عن حالة مرضية يعانيها الإنسان الجديد - إنسان ما بعد الموحدين الذي خلف إنسان الحضارة الإسلامية ، والذي كان يحمل في کیانه جميع الجراثيم التي سينتج عنها في فترات متفرقة جميع المشاكل التي تعرض لها العالم الإسلامي منذ ذلك الحين . فالنقائص التي تعانيها النهضة الآن ، فنحن ندين له بمواريثنا الاجتماعية ، وبطرائقنا التقليدية التي جرينا عليها في نشاطنا الاجتماعي, هذا الوجه المتخلف الكئيب ما زال حيا في جيلنا الحاضر ، نصادفه في المظهر الرقيق البريء الذي يتميز به فلاحنا الوديع القاعد ، الذي انطبع في الظاهر بجميع أشكال الحياة الحديثة ، بينما تحمل أخلاقه وميوله وأفكاره صورة ( إنسان ما بعد الموحدين ) . وطالما ظل مجتمعنا عاجزا عن تصفية هذه الوراثة السلبية التي أسقطته منذ ستة قرون ، فإن سعيه إلى توازن جديد لحياته وتركيب جديد لتاريخه سيكون باطلا عديم الجدوى . إن العلوم الأخلاقية والاجتماعية والنفسية تعد اليوم أكثر ضرورة من العلوم المادية ، فهذه تعد خطرا في مجتمع مازال الناس يجهلون فيه حقيقة أنفسهم ، وإنسان ما بعد الموحدين في أية صورة كان -باشا أو عالما مزيفا أو مثقفا مزيفا أو متسولا- يعد عموما عنصرا جوهريا فيما يضم العالم الإسلامي من مشكلات منذ أفول حضارته ،