إن من واجبات فلسفة العلوم إبراز القيم الابستمولوجية التي يفرزها العلم وهي مجموعة من القيم المتجددة مع تطور الفكر العلمي، ولنا أن نتساءل عن هذه القيم، أما المسألة الثانية أن إدراك القيم الجديدة للعلم تقتضى الانتباه إلى مظاهر التجديد والخصوصية فيه ، لأنه سيجد في خصائص العلم المعاصر قيما ايستيمولوجية جديدة ينبغي ابراز دلالتها (14) حقيقة يؤكدها التحول والتطور الذي عرفته العلوم المعاصرة، فعلوم القرن العشرين تمتاز بقيم جديدة إذا ما قورنت بعلوم القرن الثامن عشر والتاسع عشر لذلك على الفلسفة أن تقوم بمراجعة مفاهيمها، تصحيحا وتجديدا وابتكارا لتتمكن من إدراك الجدة العلمية المعاصرة يقول باشلار موضحا إننا سنغتنم كل الفرص للتأكيد من صفحة إلى أخرى على الطابع التجديدي للفكر العلمي المعاصر. إذ غالبا ما يتضح هذا الطابع التجديدي بشكل كاف بمجرد ما نقارن بين مثالين: أحدهما نأخذه من فيزياء القرن الثامن عشر أو القرن التاسع عشر، إن مصدر القيم الابستمولوجية هو جديد العلم أو النظريات العلمية الجديدة، بما تحمله من قيم تثويرية وتجديدية فعندما نتحدث عن القيمة الابستمولوجية للهندسات اللا إقليدية فهذا ينعكس في المفاهيم الرياضية الجديدة لتصور المكان ما يعني أن القيم الابستمولوجية قيمة للعلم وليس للفلسفة، بل ولا يحق للفيلسوف أن يضفي على العمل العلمي قيما من خارجه والإبستيمولوجى إن لم يتمكن من مسايرة الكشوفات العلمية المعاصرة فإنه لا يستطيع فهم تطور المعرفة العلمية لا تكون فلسفة العلوم تدخلا فلسفيا في العلم لتبرير أهداف خارجة عنه، ذاتها في مسيرة العلم دون سواه لكن ما هي القيم الجديدة للعلم المعاصرة يحددها لنا باشلار بوضوح وجلاء منها أن الواقع في العلم المعاصر مبني وليس معطى واقع يتصف بالاصطناع، إن الواقع المعطى عن طريق التجربة المباشرة اعتقاد فلسفي تجريبي والواقع الذي تؤسسه الذات العارفة انطلاقا من المبادئ القبلية الجاهزة اعتقاد فلسفي مثالي ويرفض باشلار اعتبار الواقع العلمي معطى من معطيات التجربة المباشرة، لأن النظرية العلمية المعاصرة لا تكتفي بوصف ما هو جاهز والاقتصار في التفكير على ما تقدمه الحواس، بل تتعداه للتفكير في إمكانات أخرى للواقع لا واقعية وعلى هذا الأساس ينتقد النزعة الوضعية الاختبارية فالموضعيون بطرحهم المبدأ التحقق داخل إشكالية اختبارية تنظر إلى المعرفة، على أنها استنساخ للواقع وتنظر إلى قيمتها من خلال مدى مطابقتها للواقع، تسقط مباشرة أو لا مباشرة في الفهم الذرائعي البراغماتي للحقيقة ولقيمة القضايا العلمية (10) إن الفكر العلمي الجديد فلسفة تهدف للكشف عن الواقع وإضفاء الصبغة الموضوعية عليه وهذا لا يتأتى إلا ببناء عقلاني من المفاهيم المتكاملة ينتظم فيها الواقع رياضيا والواقع المباشر ليس إلا دافع للتفكير العلمي ولا يمكن أن يكون موضوعا للمعرفة. إن دور الآلة يؤكد هذه القيمة الجديدة للعلم المعاصر حيث لم تعد الآلة تدقق إدراكنا للواقع فحسب بل أصبحت ما يجعلنا ندرك هذا الواقع الذي لا يمكن إدراكه دونها، إن إنجاز فيلسوف العلم المهمة إبراز القيم الابستمولوجية لا يتأتى من فراغ، إذ لا بد من تمثل شروط أساسية، أولها: أن يتخذ فيلسوف العلم موقف اليقظة من العلم المعاصر على فيلسوف العلم الذي يعاصر فترتنا من تاريخ العلم أن ينتبه إلى مظاهر الجدة الخصوصية فيها، فهناك سيدرك معنى القيم الابستمولوجية، لأنه سيجد في خصائص العلم المعاصر قيما ابستيمولوجية جديدة ينبغي إبراز دلالاتها، المسألة الأولى : ضرورة تجاوز الاعتقاد القائل بأن الأولي دائما أساسي، لا وجود في العلم الأصول وبدايات مطلقة، ويتحقق ذلك بالبحث في قيمة النظرية وليس البحث عن أصول أو بدايات النظرية غير أنه سيكون على الفيلسوف، إن هو أراد أن يستوفي كل دروس العلم المعاصر، أن يتخذ الطريق المعاكس لهذا المبدأ الابستمولوجي. سيكون عليه أن يناهض تاريخية التجربة، بل وتاريخية ما هو عقلاني. وما أن يعي الفكر العلمي هذه المهمة الأساسية في إعادة تنظيم المعارف حتى تبدو النزعة إلى أن نسجل به المعطيات التاريخية الأولية بليلة حقيقية الوعي العقلاني إذن وعي جديد تماما،