عثرت بالكاد على ركن قريب أضع فيه عربتي، وكانت ثمة ثلاثة باصات من ماركة روزا اليابانية أمام باب العيادة مباشرة، ويتدفق منها العشرات بين رجال ونساء وأطفال داخلين إلى العيادة، أو متجمهرين على بابها. وأكاد أوقن تماما أنهم معزون جاءوا بهذه الكثافة، ولا بد أن أحد أفراد أسرة عز الدين قد توفي فجأة، يقف أمام كشك التيجاني المغروس في وسط الحوش، يتناول فطوره المعتاد المكون من شطيرتين من الفول. وعثرت على ممرضي العجوز بعيدا تماما عن أي مأساة رسمتها في خيالي، وقد امتلأت صفحة كاملة من دفتره القديم ذي الغلاف الأزرق، بأسماء المراجعين، وما زال يعمل على التسجيل بنشاط غريب. يرتدي رجالهم الصديري والسروال القصير، وأساور من القصدير تحيط بالسواعد والأعناق بينما أطفالهم شبه عرايا في ملابس شفافة. كانت رائحة عطر الشاكوين الذي يصنع في البيوت محليًا من الأعشاب، فأجابني الممرض وهو سمعت بعد ذلك صخبا هائلا بالخارج، لأرى عز الدين موسى يدخل متورم الوجه، وقفت مندهشًا أستطلع الأمر، يرتدي عمامة من قماش الكرب الشفاف، كان كما يبدو متحدثًا رسميًا لتلك الفوضى الغريبة ولا بد أنه تدرب على مخاطبة الأطباء من قبل، بأنه رزق هبط علينا من السماء فجأة، لأنني جلست على طاولتي أكثر من عشر دقائق أنتظر أن يبدأ دخول المرضى، طال انتظاري إلى عشرين دقيقة، خاطبني قائلًا بلا مقدمات: - هل تبيعون الإنسانية يا طبيب؟ - لا أفهم ما تعني. قلت ولم أكن أفهم بالفعل، ولا كان ممرضي عز الدين في لحظة غضبه وتورم وجهه تلك، لكن صدره كان يعلو ويهبط بسرعة، ويصب من جسده العرق. قليل الغضب فيما مضى، هل هذه إنسانية ؟ . جملة شديدة الإيحاء، لم أسمعها حتى من ألسنة مرضى أصغر سنا، وأقوى لسانا . فتاة تحب زميلًا ولا تنام، ولم أستطع مساعدتها . لم تكن ثمة جدوى لأوضح له، يرتوي منه العطشان متى ما أراد ويمضي بلا ثمن، تم شراؤه بلا إنسانية، ويعمل في إنارة المكان بلا إنسانية، يؤخذ مني آخر الشهر بلا إنسانية، والطريق الذي تشقه العربة حتى تصل، يقتطع حتما بلا إنسانية، لم يكن ليفهمني ، كان بإمكاني أن استدعي الشرطة، لكنني لم أفعل، وبدأت أحاور الرجل : - وهل تقيمون هنا في حي النور ؟ كان حي المرغنية الذي ذكره، وممتلئ بالضجيج والفوضى، ولا بد أن إدريس المسكين قد تعب في الدوران بين أزقته وحفره العميقة، ينازلني به، ولم أفعل له شيئًا سوى أنني استقبلته في عيادتي، من دون أن أعرف من هي زينب، وأسمع سيرة القلم ترد الآن على لسان ذلك الشيخ الفصيح بوصفه هدية غالية. كان القلم موضوعًا أمامي على الطاولة، لوّحت به أمام وجه الرجل، ثم كسرته من الوسط وألقيته أرضًا، يلصق به القلم، إنه يوم الإنسانية الكبير. كان الممرض قد صعق ، لكنني أسكته بنهرة قاسية، وواجه الآخرين الذين يتكدسون في الصالة، والشارع أمام باب العيادة. - واحدًا واحدًا من فضلكم وسنراكم كلكم. وعدت أجلس على طاولتي هادئا، أضع سماعتي الطبية حول رقبتي، ولا إلى صوته المتحشرج الذي بدأ ينادي به على المرضى حتى يدخلوا. وتورم الساقين، والتيفود وحمى القصب، ولين العظام عند الأطفال، وكانت ثمة فتاة في الثالثة عشرة من عمرها، تملك قلبا في الجانب الأيمن من الصدر، ولم تشخص أبدًا من قبل، وجاءت تشكو من قمل الرأس الذي يسري في الليل، لكن هيئتها الهزيلة أغرتني بفحصها كاملا، ومن ثم عثرت على ذلك العيب الخلقي النادر. بالرغم من تعبي الشديد، ومحاولاتي المجهدة فك رموز الرطانة القبلية التي كانت تصدر من بعضهم، ممن لا يجيدون العربية أو يتصنعون عدم إجادتها حتى يظلوا مربوطين بهوياتهم، وقد استفدت كثيرًا من فصاحة الشيخ الذي واجهني في البداية، عينته مترجمًا فوريًا في تلك الساعات، أن يسألني عن أدوية علاج الهمة، اسم شائع عند قبيلته، وقد عمل طوال حياته، حمالًا بالميناء، والآن يعتمد على أبنائه الذين يعملون في نفس وظيفته السابقة، يرد التحايا، ويمازح النساء العابرات، ويذهب في المساء إلى معالج روحاني اسمه الشيخ الحلمان يسكن في ذلك الحي الفوضوي أيضًا، ولا سألت عن كيفية لمهم هكذا، وهل حملتهم تلك الباصات من منطقتهم البعيدة، كنتُ في الحقيقة قد أعجبت به، وفكرتُ أنه ربما ينفع شخصية في رواية قد أكتبها ذات يوم. بالطبع كانت الحصيلة المادية في ذلك اليوم، وحتى أولئك المرضى المعتادين ممن يترددون علينا بشكل مستمر للكشف أو المقابلة الروتينية، لم يجدوا طريقة للدخول إلى العيادة بسبب الزحام، ووقف عز الدين أمامي ساخطًا، ويطالبني في جرأة لم أتعودها منه، وكانت ملكه اشتراها بماله الخاص ويستخدمها في جني بعض الربح الإضافي، والمخدر الموضعي، والشاش المعقم، وجدت أسرتي كلها تقف في الشارع مدهونة بالقلق، لقد تأخرت عن موعد وصولي.