الاعتراف (Politics of Recognition)، سواء في تفسير انبعاث ظاهرة الهويات أو في تبيان كيفية تلبية مطالبها من قبل الدولة - الأمة.1 ویرى تايلور أن سياسة الاعتراف تعني الإقرار بالتباينات ما بين الجماعات و خصوصيات كل منها بصورة رسمية، وذلك لأن من الضروري الاعتراف بالهوية المميزة لهذا الفرد أو تلك الجماعة حتى يتم بذلك تمييزها من هوية فرد آخر أو جماعة أخرى. فالقضية الجوهرية هنا تتجسد في أن هذا التمايز والخصوصية أمر قد تم تجاهله وإخفاؤه، ثم تم السعي من أجل استيعابه بواسطة الهوية المهيمنة أو هوية الأكثرية (Majority Identity)). يغدو بروز النزعة القومية والإثنية لدى الأقليات أمراً لا يمكن الحؤول دون قيامه إذا واجهت الجماعة المتمركزة إقليمياً ما يمكن أن تفهمه على أنه هيمنة أو اضطهاد ممارس تجاهها من قبل جماعة أخرى ونتيجة لذلك، فقد نجمت لدى الأقليات الحاجة إلى الاعتراف بخصوصياتها وتباينها في ما بينها من جهة، وبينها وبين الأكثرية المهيمنة ثقافياً من جهة أخرى.وتقوم هذه الحاجة على فكرة مفادها أن هوياتنا يتم تشكيلها إلى حد ما بالاعتراف (Recognition) أو بعدم الاعتراف، وغالباً ما تتشكل بفعل سوء اعتراف الآخرين. فإن شخصاً أو جماعة ما ستعاني ضرراً حقيقياً وتشويهاً خطيراً إذا ما كون الناس أو المجتمع المحيط بهم صورة مختزلة أو مهينة أو مزدرية عنهم ونقلها إليهم في الوقت ذاته. وتبعاً لذلك فمن الممكن أن يتسبب عدم الاعتراف أو سوء الاعتراف في أذى نفسي، فيتخذ شكلاً من أشكال الاضطهاد، وذلك بجعل المرء حبيس نمط زائف ومشوّه ومختزل عن الذات، ومثال ذلك حالة السود والسكان الأصليين في الولايات المتحدة فالجماعات عموماً تكون ضحية الاضطهاد (Oppression)، وذلك حين تجد أن تقاليدها وممارساتها تتعرض للتلاشي والزوال كلما تكيفت تلك الجماعات مع الكيان الثقافي والكيان السياسي للأكثرية المهيمنة، وفي الوقت ذاته، يتم العمل على قولبة» أو «تنميط» (Stereotype)(۱۲۱) الجماعة، وبذلك، فإنَّ الإمبريالية الثقافية تشتمل على إضفاء الصفة الشمولية على تجربة وثقافة الجماعة المهيمنة وما أنشأته من مؤسسات حتى تغدو مثالاً تحتذي به الأقليات الثقافية واستناداً إلى ذلك، فإن سوء الاعتراف لا ينطوي على الافتقار إلى الاحترام المطلوب فحسب، بل من الممكن أيضاً أن يتسبب في إحداث جرح، بحيث يجعل ضحاياه أسرى كراهية شديدة للذات . فالاعتراف المطلوب ليس مجرد مجاملة ندين بها إلى هذه الجماعة أو تلك، بل هي حاجة إنسانية ضرورية لاستمرارية الوجود» وبناءً على هذا المنظور، فإن تايلور يتفق مع برلين على فكرة أن الإكراه أو الاضطهاد يتسبب في إحداث أذى نفسي» و«جرح» لدى الأقليات، بحكم ما ينطوي عليه الإكراه من إذلال جماعي، ولكن الذي يتميز به تايلور هو تأكيده كيفية تبلور الهوية ذاتها بفعل سوء الاعتراف بها بالشكل الذي يجعل من معاناة الأقلية جزءاً لا يمكن فصله عن هويتها.وآية ذلك تأكيد تايلور وجود صلة رابطة بين الهوية والاعتراف، وتتمثل تلك الصلة في الخاصية التي يتسم بها نمط حياة الإنسان بعينه، إذ بموجبها نكون كائنات بشرية حقاً إنها تعني مَنْ نكون، إنها تجسد بحق الخبرات والتجارب السابقة التي تضفي معنى على أذواقنا ورغباتنا وخياراتنا ومطامحنا . ومن ثم، فإن إدراكي للهوية التي أحملها لا يعني أنني قد حققته في حال من العزلة، بل يعني أنني قد جعلت الهوية موضوعاً للحوار مع وبذلك فإن هويتي تعتمد إلى حد كبير على علاقاتي التحاورية مع الآخرين . الآخرين» وبناء على ذلك، فإنَّ تكوّن الهوية وبروزها إنما يتمان وفقاً لآلية واحدة هي التحاور والتفاعل مع الآخرين. فالتحاور هو الذي يقود إلى تعيين ملامح التماثل والتباين ما بين الهويات، سواء على صعيد الأفراد أو على صعيد الجماعات، وكذلك الحال مع الجماعات، سلباً كان ذلك أم إيجاباً، وهي تُريدُ من خلال هذا التحاور نيل الاعتراف بها بوصفها جماعة متميّزة من الجماعات المحيطة بها.وفي هذا السياق نفسه، فعلى حد تعبيره : إذا كانت الحاجة إلى الاعتراف بقيمتي الخاصة لا تنفصل عما أتمثل به وفق هويتي الشخصية، فحينئذ ينبغي أن يكون الاعتراف المجتمعي بالهوية معدوداً من بين الحاجات الأساسية للأنا»وهو يشير بذلك إلى فكرة أننا إذا أدركنا أن الثقافة في جزء كبير منها هي نتاج إنساني، وأن الإنسان بذاته، عندئذ يكون في مقدورنا تفسير سبب هذه الحاجة إلى الاعتراف بالهوية على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي. فالفرد والجماعة تحكمهما نزعة البقاء والحفاظ على الذات وهذه النزعة يمكن إشباعها فقط بواسطة الاعتراف بهوية حاملها، وإلا ستغدو هذه الهوية في حال من الاهتياج والسعي المكثف إلى الحفاظ على الخصوصية والتمايز بفعل سوء الاعتراف بها أي نتيجة اضطهادها بعبارة أكثر وضوحاً.وما يؤيد ذلك، تشديد رينو نفسه على فكرة أن بواعث الصراعات المجتمعية يجب أن نبحث عنها دائماً في الشعور بالظلم، إما عن إحساسنا بنكران كرامتنا العامة من حيث كوننا بشراً، وإما عن الوعي بالنيل من القيم التي تضفيها على مظهر من مظاهر ذاتيتنا.- التفسير السلطويوفي سياق هذا التفسير، بالشكل الذي يُفضي إلى تبلور نزعة إقطاعية جديدة فيها.ویری بوردو أن الحياة السياسية كانت دائماً تتحرك بفعل الخصومات بين السلطة القائمة ومختلف أنواع القوى التي تحاول إما الحلول محلها، وإما إخضاعها لمتطلباتها، ولكن ما تتسم به الدولة التعددية هو أن مثل هذه المطالب تعتبر شرعية فيها، يؤكد بوردو بروز نزعة إقطاعية جديدة داخل هذه الدولة، فالحق أن الإقطاعية لا تبطل أبداً، إذ إن من طبيعتها أن تنبعث مع كل عجز لسلطة الدولة. فالإنسان يسعى دائماً إلى الاحتماء في ظل السلطة. وانطلاقاً من ذلك، يسعى لنيل مساعدتها المباشرة، فهو يطلب منها تأمين المستقبل الذي يرغب فيه. وإذا قصرت الدولة في هذا الدور - وكيف لا تقصر في جانب ما طالما أنها لا تستطيع أن ترضي الجميع بالمقدار نفسه - تتشكل سلطات أخرى تأتي لتكمل تجاه جماعات واسعة إلى حد ما مهمة الحماية التي لم تعد الدولة تُؤَمِّنها ويعني ذلك أن الهويات الثقافية إنما تنبعث من داخل الدولة التعددية لأن الأخيرة تعترف أصلاً بشرعية مطالبها، مما يضطر الأفراد إلى البحث عن مصادر بديلة توفر لهم الشعور بالأمن والاستقرار وتتمثل تلك المصادر عادةً في الجماعات التيتسبق في وجودها وجود الدولة ذاتها، ومن ثم يتشكل نوع جديد من السلطات يعمل على منافسة سلطة الدولة.وليس العنف الممارس من قبل النخبة القوية هو الذي يثير هذه «السلطات المنافسة» لسلطة الدولة، فبغية مواجهة الضعفاء الذين يُطالبون، يتنظم الأغنياء ليدافعوا عن امتيازاتهم. وفي النهاية، لا يعود المجتمع بأسره سوى قلاع متقاربة أو ساحات منعزلة تنطلق منها الهجمات ضد حصن الدولة ) ففي ظل عجز الدولة عن توفير الأمن أو قصورها في ذلك، فإن انكفاء الأفراد على الجماعات التي ينتمون إليها، ثم محاولة الأخيرة السيطرة على الدولة، إنما يتجسد في الدولة ذاتها، باعتبارها الأداة المحتكرة لممارسة الإكراه الشرعي.فالدولة باعتبارها الأداة الفعالة والوحيدة في ممارسة الإكراه والقوة، فالقوة الهائلة التي تحوزها الدولة تصبح من قبيل الجائزة (Stake) التي ينالها مَنْ يسيطر على الدولة. وهذا ما يدفع بصورة جوهرية إلى قيام التنافس والنزاع بين الأقليات والأكثرية حول الدولة وامتيازات السيطرة عليها وبناء عليه، تغدو الدولة بذاتها هي باعث توليد هذه النزعة الإقطاعية الجديدة. ففي الماضي كانت الجماعات الثقافية ترفض الخضوع لقانون الدولة، وتحاول أن تنأى بنفسها إقليمياً عن الدولة الوليدة، أما اليوم، فنجدها على العكس من ذلك، وتضفي على نفسها شرعيتها بذاتها، فما تريده ليس صنع قانونها الخاص، وإنما إملاء محتواه على قانون الدولة، فهي لا تريد سك عملتها الخاصة، وإنما تقرير كيفية استعمال مالية الدولة، ولا تريد كذلك اختيار أعدائها، وإنما الإقرار بأنهم أعداء الدولة» إذ يعتقدان أن هناك آليتين تساعدان معاً على استمرارية الجماعات الإثنية في الاحتفاظ بهويتها في أوروبا. فالآلية الأولى هي التي تسهم في تشكيل الجماعات الإثنية،