الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه. والعربية خير اللغات والألسنة. نشأت وترعرعت تتزين من لهجات العرب، وأعظم اللغات ثراء ودقة ومعنى. والمنزلة العالية لتحتفظ بشبابها جمالاً وبهاءً، ولتزداد مهابة وسعةً وانتشاراً، فأنزل بها الكتاب المهيمن على سائر الكتب السماوية، لتكون هذه اللغة مهيمنة على سائر اللغات وجعلها لسان نبيه الكريم ووعاء دينه القويم لتكتسب بذلك صفة العموم والشمول والخلود. انطلقت العربية مع الإسلام من جزيرة العرب، فبلغت ما بلغ من مشارق الأرض ومغاربها، وامتدت بامتداده إلى العراق والشام ومصر وبلاد المغرب وما وراءها. وانحسرت بانحساره من بلاد الأندلس وحضارة تلك البلاد وإرثها من علوم العربية ومصنفاتها شاهد ذلك. وبينت أحكام الإسلام أحسن بيان ونقلت أحاسيس الإنسان ومشاعره بأجمل إشارة، يقول الرافعي رحمه الله وهي من هذا القبيل أعظمها ثروة، وأبلغها من حقيقة التمدن حيث لا تدانيها في ذلك لغة أخرى كائنة ما كانت، فالعرب لم يدعوا معنى من المعاني الطبيعية، التي تتعلق بالحياة الروحية أو البدنية مما تهيأ لهم إلا رتبوا أجزاءه، ولن تموت بل هي باقية ما بقي قرآن وإسلام. بهذا العمر المديد سبعة عشر قرنا، وتعهد سبحانه بحفظه (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) ولا يتحقق حفظ الوحي إلا بحفظ لغته! فهيء لها علماء أجلاء، وضبط نظامها ، ثم استقلوا ذلك كله في جنب هذه اللغة الكريمة. فعلى العلماء وقادة الفكر - اليوم - أن ينهضوا بهذا العبء الثقيل وأن يدرك الغيورون أن العربية تقوى بقوة أهلها، وتحمى بجهود علمائها، وتعز باستعمالها فيما يجب أن تكون فيه. لأن اللغة فكر. وإصلاح التعليم، وإصلاح الإعلام. والله المستعان وعليه التكلان الفصل الأول: أهمية الأمن اللغوي وأن تكون لساننا في سائر ميادين الخطاب لما يلي: وتحقيقا لوعده بحفظها . فجاء علم الأصوات لإقامة اللسان، وعلم الصرف لضبط بنية الكلمة، ونشأت سائر علوم العربية، لسماع كلام العرب الأقحاح - شعره ونثره - وروايته وتدوينه، أليس في هذا إكرام للعرب وتكريم للعربية، لأنها لغة القرآن ولسان سيد الأنام عليه الصلاة والسلام، يقول المستشرق الألماني يوهان فك (( لقد برهن جبروت التراث العربي الخالد على أنه أقوى من كل محاولة يُقصد بها زحزحة العربية الفصحى عن مقامها ))). المسيطر أدرك علماؤنا فضل العربية وأثرها في فهم الإسلام فدعوا إلى تعلمها والمحافظة عليها . قال الثعالبي ( فإن من أحب الله أحب رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي نزل بها أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب، ومن أحب العربية عني بها، وثابر عليها و صرف همته إليها ) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (( اعلم أن اعتياد اللغة: يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرًا قويًا بينا ، ويؤثر أيضًا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق)) (٢). وكره أئمة الإسلام التكلم بغير العربية لغير حاجة حفظاً لها، يقول ابن تيمية (( وما زال السلف يكرهون تغيير شعائر العرب حتى في المعاملات، وهو التكلم بغير العربية إلا لحاجة، ولحفظ شعائر الإسلام)) (۳). اللغة والهوية فلغتنا هويتنا، وشعارنا بين الأمم، هي انتماء روحي، وهوية كل مجتمع أو أمة تتمثل في ثلاثة أمور رئيسة، هي: الدين، والثقافة واللغة، واللغة هي الأداة الفعالة لبناء النهضة والحضارة. وقدمه إلى الملكة ((إيزابيلا )) لأول مرة في تاريخ اللغات الأوروبية، هذا الشيء ؟ فأجاب: يا صاحبة الجلالة : إن اللغة هي الأداة الفعالة في بناء الإمبراطوريات)) (1) وحين أدرك الأعداء أهمية اللغة وأثرها في بناء الأمة جعلوا يعملون على إضعافها بل محوها وقتلها، تأمل حرقة الأديب اللبيب مصطفى الرافعي على لغته وهي تتنحى عن الصدارة، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار، ومن هنا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضًا على الأمة المستعمرة، ويُشعرهم عظمته فيها ويستلحقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثة في عمل واحد : أما الأول : فحبس لغتهم في لغته سجنا مؤبدا . لقد أحس الرافعي بسجن لغته وقتل ماضيه وأغلال الأجنبي في عنقه شعورًا يخالج كل مسلم وعربي يُدرك بأن أمته معطلة، ومأزقا في لغتها، حيث تخلت عن مسؤوليتها، ( إن اللغة هي الهوية الوطنية، إنها الوطن الحي المتدفق الذي يسكن قلب كل واحد منا )) (۳) (( وإنك إذا سلبت البلاد عنوان انتمائها الوطني - وهو اللغة - فكأنك سلبت من كل فرد عنوان ذاتيته)) (٤). والأسماء يعبر بها عن الأشخاص والأحداث والأفكار ، فلفظة ((سعادة)) تعني معنى معينا في عقولنا، والبيع والاجتماع. قال تعالى : ((وعلم آدم الأسماء كلها))، والمعنى والفكرة في العقل متلازمان، فلا يمكن أن نفكر إلا بالكلمات، ولا نتكلم إلا بمعاني وأفكار، ونوعها وأهميتها تبعا لما يمتلكون من حصيلة لغوية. وكلما نقص عقله نقص رصيده اللغوي. فضيقُ الصدر يُربك العقل فلا ينطق اللسان، ولذا من الناس أثرياء في اللغة والتفكير، ومنهم الفقراء. جاء في المثل العربي أي فكره وعقله وذكاؤه ودهاؤه تظهر في لغته، فدخل عليه رجل مهاب نظيف الثياب، فكف رجله تقديرا واحترامًا، ظهر فكره في لسانه، قال الإمام: قد آن لأبي حنيفة أن يمد رجله مما يدل على أن اللسان صورة الفكر والجنان فكيف إذا كانت - تلك - اللغة العربية اللغة الشاعرة؛ لأن المحافظة على اللغة محافظة على الفكر، والأمن اللغوي أمن فكري. الفصل الثاني: تحقيق الأمن اللغوي ويؤثر في دلالتها - معنى اللفظ . ويتأثر معنى التركيب بالسياق الذي جاء فيه، كما تختلف بالتقديم والتأخير، وغيرها من أساليب اللغة واختلاف معانيها. كل ذلك يؤثر في مسار الفكر ترغيبا وتنفيرًا ، فيُغيّر تلك المعاني، مما يمكن المتحدث من الخداع والتلاعب بعقول المخاطبين، يضعه في غير موضعه. مما أدى إلى ضعف عقله وغدا مرتعا للأفكار البراقة، والمعاني الخداعة، والتصورات التي لا تلائم المجتمع والحالة العامة. والفهم الصحيح للخطاب بكل دلالاته وقرائنه يكمن في فهم اللغة، وإصلاح الفكر والجنان يتحقق بإصلاح اللسان. إن الناظر في العربية وتاريخها، يراها تسير على سياسة لغوية ربانية، واتحاد الأقطار وتفرقها، واختلاف السياسات وتباينها، لتبقى برعاية ربانية - هذا التاريخ المجيد - ما بقي قرآن وإسلام، ويتساقط غيرها من اللغات وتهرم، وتولد لغات أخرى، والعربية ثابتة كالطود الشامخ والجبل الأشم، كيف حازت العربية هذا البقاء، لابد من أسباب وأعمال وجهود تتحقق بها الحماية الربانية ويعبر بها الوعد الإلهي. والدين قبل ذلك، متباينا اقتصاديًا، فالقيم أسبق وأعمق وأبقى من التقسيم القطري المتغير. يعقبه متابعة ومحاسبة عادلة، ملزم بالعربية في قاعات التعليم العام والجامعات، ووسائل الإعلام، والمؤتمرات والملتقيات، وغيرها . ينبغي أن يكون هناك قرار يؤخذ بالإجماع العربي، وحسن الصياغة وحكمة المعالجة. يدفع إلى ذلك غيرة لغوية حميدة، فالأمة - أي أمة - تغار على لغتها ؛ فإضعاف اللغة إضعاف للأمة، وفي ذُلّها ذلها ، وبنوا هويتهم وثقافتهم على أن لغتهم ركن أساس من أركانها . وعملت على ونشرها في الأمم الناطقة بغيرها، وإبرازها في الاتفاقات والعقود وطرحها كمصلحة أمة. ومن الحكمة النظر في تجارب الأمم الجادة وانتصارها للغتها، وأعلن فتنمة المدارس والكليات، فرجاه أساتذة كلية الطب إمهالهم بعض سنوات، ولما استعمر اليابانيون كوريا، وكذا استطاع اليهود بعث الحياة في اللغة العبرية الميتة، فلم تمض خمس سنوات من اغتصابهم حق الأرض بعد قرار التقسيم عام ١٩٤٨م حتى بادروا إلى إنشاء ((مجمع اللغة العبرية)) ((١٩٥٣م)) ثم كونوا مجلسًا أعلى يضم أربعين لجنة متخصصة في كل الفروع العلمية والفكرية تهتم بمسايرة اللغة للتطور المستمر واستحداث المصطلحات والمفردات العبرية، التي تُعطي الحاجة في المجالات كافة، والدافع لهم إيمانهم بأن لغتهم هي شخصيتهم وثقافتهم وتاريخهم، والجامعة لكيانهم المشتت، وهكذا الشأن في بقية الأمم، في فرنسا وألمانيا وروسيا وغيرها . هكذا تحمي أمم الشرق والغرب لغاتها، وتتحدث بها بكل عزة وفخر وشموخ. ولا يكون ذلك إلا بغيرة لغوية دافعها العزة بالأمة ولغتها، وسلطانها القرار السياسي الصارم. ٢- إصلاح التعليم اللغة العربية جديرة بالعناية والتقديم في التعليم العام، وفصاحة القرآن الكريم والحديث الشريف، لكل مرحلة تعليمية ما يناسبها، ولو اشتغل العرب والمسلمون بالقرآن الكريم تلاوة وتجويداً وحفظاً لأبنائهم؛ لاستقامت الألسنة وانقادت لهم اللغة في أعلى مستوياتها، وأفصح ألفاظها وتراكيبها، والممارسة الميدانية من المعلمين تؤتي ثمارها وتنضج حصادها . ب التعليم باللغة العربية الفصيحة، من مرحلة الروضة إلى المرحلة الجامعية، ونظرية الدكتور عبد الله الدنان خير دليل وبرهان - نظرية تعليم اللغة العربية بالفطرة والممارسة - التي تهدف إلى القضاء على الضعف العام في اللغة العربية في الوطن العربي، وهما في الثالثة من العمر. وأسس ((دار الحضانة (العربية) في الكويت، صمم برنامجا لتدريب المعلمين والمعلمات وغيرهم على المحادثة باللغة العربية الفصحى، مدته اثنا عشر يوما ، وذاعت في الإعلام وأفاد منها كل حريص على تعليم اللغة العربية الفصيحة المعربة. وأن الطالب يتحدث بما يسمعه من معلمه. وأقوى في الانتفاع، وأعلى في الإبداع والاختراع، في التدريس بالعربية عز لها ولأهلها وقوة لها ولهم، وبرهان على قدرتها وسعتها، ويمكن الحديث عن التعريب في نقاط: 1- الدول المستقلة سياسيا تدرس علوم الطب والهندسة بلغاتها كألمانيا وفرنسا والدول الأوروبية، واليابان والصين، وفيتنام، وغيرها . حتى الكيان الصهيوني الذي تمكن من إحياء لغته العبرية بعد موتها ، يدرس تلك العلوم بلغته العبرية على قلة في عددهم إذ لا يتجاوزون بضعة ملايين نسمة، إلا الوطن العربي فإنه يدرس هذه العلوم بغير لغته ؟ - أنشئت في مصر أول كلية طب أيام محمد علي الكبير عام ١٨٢٧م، وبعد الاستعمار تحوّلت إلى اللغة الإنجليزية في عام ١٨٨٧م. وكان الطب يعلم فيها باللغة العربية، بعد الاستعمار للوطن العربي أصبحت هذه العلوم تدرس بلغته، وفي مصر والسودان والعراق ودول الخليج باللغة الإنجليزية، وفي الصومال بالإيطالية، يقول جورجي زيدان (( مر على المدارس الكبرى في سوريا ومصر عشرات من السنين والتعليم فيها باللغة العربية، فزهت هذه اللغة وازدهرت، وهو عصرها الذهبي في هذه النهضة، وحجة أصحاب هذا القول قلة الكتب التعليمية في اللغة العربية، ولكن التعليم يراد به أيضا شيء آخر لا يقل أهمية عن ذلك. ولم يبق ما يحتج به بعض الراغبين في اللغات الأجنبية)) ويقول الأستاذ أحمد حسن الزيات: (( الترجمة هي الوسيلة الأولى لدفع القصور عن اللغة، لذا أرى أن تنشأ دار للترجمة مستقلة يكون لها من جلالة القدر ونباهة الذكر ما للجامعات. إن تدريس هذه العلوم بلغة أجنبية هزيمة نفسية، وبعد عن الهوية، وإليك بعض المعوقات عن التدريس لهذه العلوم باللغة العربية فهي مهملة وغير مفعلة في الواقع. الانبهار باللغات الأجنبية في مجال تدريس العلوم، قد أكملوا دراساتهم العليا بغير لغتهم الأم، مما أدى إلى توقف كثير من برامج التعريب والترجمة الجيدة. كل هذه العوائق واهية هلامية، لأنها لم تُعق أُمةً من الأمم الشرقية والغربية، وهي ماثلة أمامنا للعيان، ولكن. الله المستعان. إصلاح الإعلام يقوم بدور فاعل في توجيه الآراء وإصلاح المبادئ والعادات ويعلم ويحفّز ويرفع الهمم، وقد يتسبب في الجهل والسطحية، والإحباط والشقاء للمجتمع الإعلام مدرسة كبرى للجمهور والمجتمع، بكل فئاته، وفي سائر أوقاته. يمكنه أن يصلح اللسان، ويعلم الفصاحة والبيان، وقد يشيع الخطأ واللحن، والعجمة والهجن فإذا صلح لسان الإعلام صلح لسان المجتمع، وإذا استقام الفكر وتهذبت الأخلاق في الإعلام كانت كذلك في المجتمع والجمهور. والإعلام المنطوق المتمثل في المذياع والتلفاز وقنواته أقوى أثرا في المجتمع من المكتوب كالصحافة ولوحات الإعلان ونحوها . ولغة الصحافة أصح نحوا وصرفا ودلالة، ولو سلمت من الألفاظ الأجنبية التي اقتحمتها لكانت أحسن أثرًا من غيرها على قلة القراء في الوطن العربي عامة. وظهرت على ألسنة الجماهير وكثر سماعها حتى غدت لغة المجتمع لغة رديئة بعيدة عن العربية الفصحى، وكلما ابتعد اللسان عن العربية الناصعة، اكتنف الجنان الغموض والحيرة. فبناء المجتمع وإصلاحه يقتضي إكسابه لغة فصيحة بينة، والإعلام قادر على ذلك إذا التزم بإعداد وإبراز المذيع اللغوي الماهر، والناطق اللغوي البليغ، ليكون مصدراً وقدوة ومثالا يحتذى، الخاتمة في نهاية هذا البحث الموجز، وما عُرض فيه،