بلغ العرب في الجاهلية مرتبة رفيعة من البلاغة والبيان ، وقد صور الذكر الحكيم ذلك في غير موضع منه من مثل : ( الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان ) ( وإن يقولوا تسمع لقولهم ) ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ) كما صور شدة عارضتهم وقوتهم فى الحجاج والجدل بمثل : ( فإذا ذهب الخوف سلقوكم بالسنة حداد ) ( ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ). ومن أكبر الدلالة على ما حذقوه من حسن البيان أن كانت معجزة الرسول الكريم وحجته القاطعة لهم أن دعما أقصاهم وأدناهم إلى معارضة القرآن في بلاغته الباهرة . وهي دعوة تدل في وضوح على ما أوتوه من اللسن والفصاحة والقدرة على حوك الكلام ، كما تدل على بصرهم بتمييز أقدار الألفاظ والمعاني وتبين ما يجرى فيها من جودة الإفهام وبلاغة التعبير . فقال : ( والله لقد سمعت من محمد كلاماً ، ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وفي كلام الوليد ما يظهرنا على أنهم كانوا يعربون عن إعجابهم ببلاغة القول في تصاوير بيانية ، وكثيراً ما وصفوا خطباءهم بأنهم مصاقع لسن ويروى أن الرسول الكريم استمع إلى بعض خطبائهم ، وكيف كانوا يتأتون للكلام ، وكانوا إذا احتاجوا إلى الرأى في معاظم التدبير ومهمات الأمور ميثوا ( ذللوا ) الكلام في صدورهم وقيدوه على أنفسهم ، متكلفين جهوداً شاقة في التماس المعنى المصيب تارة والتماس اللفظ المتخير تارة ثانية، بحيث يصونون كلامهم عما قد يفسده أو يهجنه ( وقد وقف الجاحظ في بيانه مراراً ينوه بما كانوا يرسلونه في خطابتهم وكلامهم من أسجاع محكمة الرصف لا وكرر القول في أن من شعرائهم من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولا كريتا ( كاملا ) وزمنا طويلا يردد فيها نظره ، وتتبعنا على نفسه ، ليصير قائلها فتحلا خنذيذاً وشاعراً مفلقا (۳) وكل يريد أن يحوز قصب السبق لدى سامعيه دون أقرانه . فما قبلوه منها كان مقبولا ، ثم عاد إليهم العام القابل، ويبدو أن من الشعراء النابهين من كان يقوم فى هذه السوق مقام القاضي الذي لا تدفع حكومته ، ففي أخبار النابغة الذبياني أن الشعراء الناشئين كانوا يحتكمون فيها إليه ، فمن نوه به طارت شهرته في الآفاق وكان في أثناء ذلك يبدى بعض الملاحظات على معانى الشعراء وأساليبهم ، وفضل الخنساء على بنات جنسها . وثار حسان عليه ، وقال له : أنا والله أشعر منك ومنها ، فقال له النابغة حيث تقول ماذا ؟ قال : حيث أقول : تو لنا الجفناتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ بِالضُّحَى وأسيافنا يَقْطُرْنَ من نَجْدَةٍ دَمَا فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابنما (1) ولو قلت الجيفان لكان أكثر ، وقلت : يلمعن في الضحى ، فدللت على قلة القتل ، ولو قلت : يجرين لكان أكثر ، وفخرت بمن ولدت ولم تفحر بمن ولدك . فقام حسان منكسرا منقطعا ، (۳). أوفى تعليقات النابغة وملاحظاته ما يدل على أن شعراء الجاهلية كان يراجع بعضهم بعضاً وأنهم كانوا يبدون في ثنايا مراجعاتهم بعض الآراء في المعاني والألفاظ ويروى عن طرفة بن العبد أنه لاحظ على المتلمس أو المسيب بن علس أنه وصف في بعض شعره البعير بوصف خاص بالناقة، فقال ساخراً به : استنوق الجمل (۱) . وينبغي أن نقف قليلا عند مدرسة زهير بن أبي سلمى ، وهي مدرسة كانت تجمع إلى الشعر روايته ، وهى تبدأ بأوس بن حجر التميمي الذي تلقن عنه الشعر زهير المزنى ، وهي مدرسة لم تكن تمضى في نظم الشعر عفو الخاطر ، بل كانت تتأنى فيما تنظم منه ، وتنظر فيه وتعيد النظر مهذبة منقحة ، وكذلك كل من جود في جميع شعره ووقف عند كل بيت قاله وأعاد فيه النظر حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجودة (٣) . ويصلح عبارة هنا أو هناك ، ويصفى الأبيات من شوائبها ، ويخلص القوافى من أدرانها تخليصاً تاماً وفي الأغانى : ( كان الحطيئة راوية زهير وآل زهير ، ويروى أنه أتى كعبا فقال له : قد علمت روايتي لكم أهل البيت وانقطاعي إليكم ، فلو قلت شعراً تذكر فيه نفسك ، وتضعنى موضعاً بعدك -وقال أبو عبيدة : تبدأ بنفسك فيه ثم تثنى بي - فإن الناس لأشعاركم أروى وإليها أسرع ، وهو يزعم أنه هو والحطيئة يتفوقان على كل من عداهما في تقويم أشعارهما وأخذها بكل ما يمكن من تنقيح وتعديل ، حتى تغدو أساليبها مستوية متناسقة أشد ما يكون الاستواء والتناسق . والتي كان يتخرج بعضهم فيها على بعض ، وما يزال به حتى تتفتحمواهبه ويسيل الشعر على لسانه ، وحينئذ بورد عليه بعض ملاحظاته على ما ينظم ، وإنما أطلنا في تصوير ما قدمناه عن العصر الجاهلي لندل على أن الشعراء حينئذ كانوا يقفون عند اختيار الألفاظ والمعاني والصور ، وكانوا يسوقون أحيانا ملاحظات لا ريب في أنها أصل الملاحظات البيانية في بلاغتنا العربية، ومن يتصفح أشعارهم يجدها تزخر بالتشبيهات والاستعارات ، أما القرآن فكانت آياته تتلى في آناء الليل وأطراف النهار ، وأما الرسول فكان حديثه يذيع على كل لسان ، وفيه يقول الجاحظ إنه لم ينطق إلا عن ميراث حكمة ، ولم يتكلم إلا بكلام قد حقَّ بالعصمة .