*بِتولّي صلاحُ الدين منصب الوِزارة في مصر، كآخر وزيرٍ سُنيٍّ في الدولة الفاطميَّة، وصل المدُّ السُنيّ الذي بدأهُ السلاجقة قبل نحو مائة سنة، إلى مصر وجرى من الأحداث في مصر، بعد تولية صلاحُ الدين منصب الوزارة، أنَّ البلاد كانت تجتاز مرحلةً خطيرةً في تاريخها. فالدولة الفاطميَّة لا زالت موجودة يُساندها الجيش الفاطميّ وكبار رجال الدولة، والخطر الصليبي لا يزالُ جاثمًا على مقربة من أبواب مصر الشرقيَّة، ولم يلبث أن أظهر مقدرةً كبيرةً في إدارة شؤون الدولة، وهو عازمٌ على الاستئثار بكافَّة الاختصاصات حتّى التي تخصُ منصب الخِلافة، فاستمال قُلوب سُكَّان مصر بما بذل لهم من الأموال والإصلاحات، وأخضع مماليك عمّه أسد الدين شيركوه، وسيطر بشكلٍ تامٍّ على الجُند، وقوّى مركزه بما كان يمُدُّه به نورُ الدين محمود من المُساعدات العسكريَّة، وقد وصل أخوهُ شمسُ الدين توران شاه بن أيّوب مع إحدى هذه المُساعدات. وقد أدَّت التدابير التي نفَّذها صلاحُ الدين إلى تقوية قبضته على مُقتدرات الدولة، وقد أدرك أنَّ نهج صلاح الدين في الحُكم سوف يقضي، على الدولة الفاطميَّة إن عاجلًا أو آجلًا، لتحريضه على مُهاجمة مصر، أن يخرج صلاحُ الدين إلى لقائه، ويثب على منصب الوِزارة. غير أنَّ صلاح الدين علم بِخيوط المؤامرة، غير أنَّ أنباء اهتزاز مركزه في مصر شجَّعت الصليبيين على القيام بمُحاولةٍ أُخرى لمُهاجمة البلاد. حصار دمياط من قبل الأسطول الصليبي والبيزنطي. ملكُ بيت المقدس وزعيم الحملة الصليبيَّة - البيزنطيَّة على مصر أواخر العهد الفاطميّ. *أدرك عمّوري الأوَّل خُطورة الوضع بعد أن تمكَّن نور الدين الزنكي من توحيد الشَّام ومصر تحت سُلطانه، وشعر الصليبيّون أنَّهم وقعوا فعلًا بين فكيّ الكمَّاشة، فراسل مُلوك وأباطرة أوروپَّا الغربيَّة يطلب منهم الإسراع بالقيام بحملةٍ صليبيَّةٍ جديدةٍ تُنقذُ الموقف الصليبيّ المُتدهور في المشرق على أنَّ الأوضاع السياسيَّة في غربيّ أوروپَّا، لا سيَّما فيما يتعلَّق منها بالنزاع بين البابويَّة والإمبراطوريَّة الرومانيَّة المُقدَّسة، ما أدّى إلى انقلابٍ خطيرٍ في توازن القوى بالمشرق، فوافق الملك على هذا الاقتراح، وتمَّ إعداد أسطولٌ عظيم مُدجج بالرجال والسلاح، كان صلاحُ الدين قد تلقَّى تحذيرًا مُبكرًا بالغ الكفاية عن الحملة، فاستعد لمُواجهتها بأن حصَّن الإسكندريَّة والقاهرة وشحن بلبيس بالعساكر اعتقادًا منه أنَّ هذه الحملة سوف تسيرُ على درب الحملات السَّابقة، أمر بإلقاء القبض على مؤتمن الخِلافة وإعدامه، ثُمَّ عزل موظفي القصر من السودان المعروفين بولائهم للخليفة الفاطمي العاضد لدين الله، وأحلَّ مكانهم رجالًا من أتباعه عزَّ على الجُند السودانيين استبعادهم وضياع نُفوذهم، فثاروا على صلاح الدين، فاضطرّوا إلى طلب الأمان منه فأجابهم إلى ذلك. تراوح موقف العاضد لدين الله الذي شهد هذه الأحداث بين الإحجام عن مُساعدة صلاحُ الدين وتأييد خطوته، ذلك أنَّهُ ظنَّ في بادئ الأمر أنَّ الجُند السودانيين سوف ينتصرون، ويُنقذونه من قبضة صلاح الدين، أخو صلاح الدين بإشعال النار بالقصر، وصل الصليبيّون والبيزنطيّون إلى دُمياط، وما أن علم صلاحُ الدين بوصول القوَّات المُتحالفة إلى المدينة سالِفة الذِكر حتّى أرسل إليها الرجال والسلاح والمؤن، كما أرسل عددًا من السُفن الحربيَّة اتخذت طريقها نحو الشمال في فرع دمياط من نهر النيل، وبعث في الوقت نفسه رسالة إلى نورُ الدين محمود الزنكي في دمشق يُخبره بما حدث، فسيَّر إليه نورُ الدين العساكر تباعًا، كما قام بالإغارة على مواقع الصليبيين في الشَّام لتخفيف الضغط عن دُمياط وعلى الرُغم من الاستعدادات الكثيرة والتحضيرات الكثيفة، فقد دافعت حامية دُمياط عن المدينة بشراسة، وفشل الأُسطول في دخول فرع دُمياط بقدرٍ يسمح له بمُهاجمة المدينة، فاستغلَّ المُسلمون هذا وانقضوا على الأُسطول وأنزلوا به خسائر فادحة، أرسل نورُ الدين الزنكي إلى صلاحُ الدين يطلب منه أن يقطع الخِطبة للفاطميين فورًا ويُرجعها للخليفة العبَّاسي، لكنَّ نورُ الدين أصرَّ على تابعه أن يفعل ذلك في سبيل تحقيق الوحدة الإسلاميَّة والاستفادة من إمكانات مصر الاقتصاديَّة والبشريَّة في الجهاد ضدَّ الصليبيين، وإقامتها للخليفة العبَّاسيّ أبو مُحمَّد الحسن بن يُوسُف المُستضيء بأمر الله، وألزمهُ إلزامًا لا فُسحة له في مُخالفته ورأى صلاحُ الدين أن يستجيب لطلب سيِّده في دمشق نظرًا لأنَّ الغالبيَّة العُظمى من سُكَّان مصر لم تتشيَّع، ولأنَّ الدولة الفاطميَّة أصبح من الواضح أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة، ولم يعد لديها القدرة على التحرُّك بعد القضاء على الجُند السودان. عندما قطع صلاحُ الدين الخِطبة بمصر للخليفة الفاطمي وأقامها للخليفة العبَّاسي، وأعاد السَّواد شعارُ العبَّاسيين. وبذلك عادت مصر إلى كنف الدولة العبَّاسيَّة، فلم يشأ صلاحُ الدين إزعاجه ومُضاعفه همّه، فأمر رجاله بألَّا ينهوا إليه بالأنباء ولم تكد تمضي أيَّام على قطع الخِطبة للفاطميين حتّى توفي الخليفة العاضد لدين الله، فكانت تلك نهاية الدولة الفاطميَّة فعليًّا، فزالت من الحياة السياسيَّة بعد أن دامت 262 سنة.