روى البخاري رحمه الله- في صحيحه، عن أبي بن كعب رضي الله عنه : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم ؟ فقال: أنا، فأوحى الله إليه: إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسی: یا رب فكيف لي به؟ قال: تأخد مع حوتا فتجعله في مكتل .الرحلة الأولى: وأعد عدته ماديا ونفسيا، وكذلك أعد فتاه فقال ليوشع بن نون، ولا رجوع لنا عن ذلك، أو امضى حقباً، فلا أزال ماضيا في هذا السفر حتى بلوغ الهدف، ولو سرت زمنا طويلا. ويزيد من عزيمة الإنسان.وصل موسى وفتاهُ إلى صخرة على شاطئ البحر، فجلسا لأخذ قسط من الراحة، وغلبهم النعاس والتعب فناما، ثم انتبه يوشع بن نون، وكانت هذه هي العلامة التي ينتظرها موسى، لكنه نسي، فأكملا سيرهما بقية يومهما وليلتهما، وقد تجاوزا المكان المقصود، فتذكر ما جرى، قال: لقد نسيت أن أخبرك أن الحوت قد قفز إلى الماء عند الصخرة، وبرر نسيانه بأنه من الشيطان،لكن الذي حصل العكس، «قال ذلك ماكنا نبغ»، فرجعا يقتفيان أثرهما في الطريق للوصول إلى الصخرة، فوجدا رجلا مسجى بثيابه، قال رسول الله: «فسلم عليه موسى . فقال له الخضر: أني بأرضك السلام؟ قال: أنا موسى ، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم.الرحلة الثانية:استأذن موسى الخضر أن يرافقه ليعلمه مما علمه الله تعالى، قال -وقد أشفق على موسى من شدة ما سيلاقيه، ومن غرابة ما سيراه: «إنك لن تستطيع معي صبرا»، حتى وإن كانت تصدر عن شخص زكاه ربه، وهذا من الرحمة التي جعلها الله في قلب الخضر، « ءاتينه رحمة من عندنا». قال موسى سأصبر إن شاء الله ولن أخالف أمرك. وقد استثنى موسى كـي لا يأثم، فقال الخضر: أما وقد عرفت وقبلت، فشرطي ألا تسألني عن شيء أقوم به حتى أبادر وأخبرك من تلقاء نفسي. وقد وافق موسى على ذلك؛ بدليل أنه ركب معه السفينة التي مرت بهما ليعبرا البحر، فعمد الخضر إلى أحد ألواح السفينة فكسره، فلما رأى موسى ذلك، قال: «أخرقتها لتغرق أهلها» لقد فعلت أمرا فظيعا، قال الخضر – بتلطف: «ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً» مذكرا نبي الله بالشرط، قال: لا تؤاخذني هذه المرة ولا تزد على من قسوة ما أرى، وعاملني باليسر والعفو، ولا تحاسبني على ما نسيت من العهد الذي بيننا.بينما هما في السفينة فوجىء موسى بأنّ الخضر أخذ لوحين من خشب السفينة فخلعهما، فقال موسى ما أخبر ربنا عنه في القرءان: ﴿ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾ (الكهف/71 - 72).ثم ذكّره الخضر بالشرط والعهد فتذكّر موسى وقال: لا تؤاخذني. فقال الخضر لموسى: "ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما نقر هذا العصفور من البحر".معناه لا نعلم من معلومات الله إلا القدر الذي أعطانا، والقدر الذي أعطانا بالنسبة لِما لم يُعطنا كما أصاب منقار العصفور في الماء حين غمسه في البحر. ولَمّا مرت السفينة بعد حين بدون أن يغرق أحد، مرّر الخضر عليه السلام يده على مكان اللوحين المكسورين فعادا كما كانا بإذن الله.ولما غادرا السفينة تابعا المسير فوجدا غِلمانًا وفتيانًا يلعبون فأخذ الخضر واحدًا منهم كان كافرًا لصًا قاطعًا للطريق وكان يُفسد ويقسم لأبويه أنه ما فعل فأخذه الخضر إلى بعيد أضجعه وقتله كما أخبر الله عزّ وجلّ في سورة الكهف:﴿ فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً ﴾ (الكهف ءاية74) ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً ﴾ (الكهف/75).أكمل موسى والخضر عليهما السلام طريقهما وانطلقا حتى أتيا قريةً وكان أهلها بخلاء لئامًا، فطافا في المجالس وطلبا طعامًا فلم يقدّم أهل القرية لهما شيئًا وردّوهما ردا غير جميل فخرجا جائعين وقبل أن يجاوزا القرية وجدا جدارًا يتداعى للسقوط ويكاد ينهار فرفعه الخضر بمعجزةٍ له بيده ومسحه فاستقام واقفًا فاستغرب موسى وقال عَجَبًا أتجازي هؤلاء القوم الذين أساءوا اللقاء بهذا الإحسان لو شئت لأخذت على فِعْلِك هذا أجرًا منهم نسدّ به حاجتنا. فقال الخضر وقد تيقّن أنّ موسى عليه السلام لن يستطيع بعد الآن صبرًا: هذا فِراق بيني وبينك.قال الخضر لموسى بِما أخبر الله تعالى به في القرءان العظيم: ﴿ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ﴾ (الكهف/78).أما السفينة التي خرقها فكانت لمساكين يعملون في البحر فيصيبون منها رزقًا، فأظهر الخضر فيها عيبًا حتى إذا جاء خدام الملك تركوها للعيب الذي فيها، ثم أصلحها وبقيت لهم.وأما الغلام الذي قتله الخضر كان كافرًا وأبواه مؤمنين وكانا يعطفان عليه، قال الخضر كرهت أن يحملهما حبّه على أي يتابعاه على كفره فأمرني الله أن أقتله باعتبار ما سيؤول أمره إليه إذ لو عاش لأتعب والديه بكفره ولله أن يحكم في خلقه بما يشاء.وأما الأمر الثالث وهو الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وتحت الجدار كنْزٌ لهما ولَمّا كان الجدار مشرفًا على السقوط ولو سقط لضاع ذلك الكنْز أراد الله إبقاءه على اليتيمين رعاية لحقّهما.أما السفينة، يتعاشون من كدهم بها، حماية لها ولأصحابها من أمر الملك. وموئه نجا لهما من الكفر، وأردت أن يرزقهما الله ولدا صالحا يكون بارا بهما، لأنه خاض بالخضر.وأما الجدار، فكان ليتيمين صغيرين وكان أبوهما رجلا صالحا، وقد أودع تحت ذلك الجدار مالاً لهما؛ ولذلك أصلحت الجدار حفاظا على كنز اليتيمين، وأراد ربك أن يبلغا سن الرشد ويحصلا على مالهما، فحفظهما عز وجل وحفظ مالهما بصلاح أبيهما،