أعتقد أن كبار الرحالين الذين تستحوذ عليهم رغبة مُلِحَّة في الطواف بين أرجاء العالم تملكهم على الرغم منهم «ملكة شخصية» يصح أن تُسمَّى عبقرية السياحة، ويصح أن تتجاوز الحد فتُسمَّى هوسة السياحة وشقت عليهم الإقامة الطويلة، والفينيقيين والإغريق لأنهم يقيمون على الشاطئ، ويحتاجون إلى الملاحة، وكالبنادقة والبرتغاليين والإنجليز في العصور المتأخرة؛ وأكثر الرحالين الكبار الذين اشتهروا في التاريخ، ونُسِب إليهم الفضل في الكشوف الجغرافية، هم من أبناء هذه الأمم، أو أبناء أمم تشبهها في البداوة والاشتغال بالملاحة … ملكة شخصية مستمدة من ملكة قومية … هذه هي عادة الرحلة التي تغلب على بعض الناس، أو هذه هي هوسة الرحلة إذا تجاوزت حدها المعقول … على أنني أعتقد — إلى جانب هذا الاعتقاد — أن ملكة الرحالة غالبة على الرحالين وغير الرحالين. ومنها الرحلة في داخل النفس أو في عالم الخيال. ولكنه شاء أن يرحل في كتاب من كتبه — وهو رسالة الغفران — فلم يقنع بأقل من الرحلة إلى السماء، وكجول فيرن الكاتب الفرنسي الحديث … ولكنه ساح بخياله في جوف الأرض، وفي أعماق البحار، وفي أجواء السماء، بل ساح في عالم الغيب، فوصف للناس مخترعات لم تُخلَق بعد، ثم خُلِقت في أوانها، فإذا هي كما وصف …! حتى قال ليوتي القائد الفرنسي الكبير: إن الناس اليوم «يعيشون أحلام جول فيرن» … ••• أو سياحة بغير انتقال. والظاهر — لا بل المحقق — أنني أنا أحد الرحالين بغير انتقال، كما لاحظ بحق أحد أصدقائي، حين علم مرة باعتذاري من تلبية الدعوة إلى كثير من السياحات، وبعضها بغير نفقة على الإطلاق … ومع هذا يجوز لي أن أقول: إنني طفت العالم من مكاني الذي لا أبرحه؛ لقد تعلقت بالسياحة في أوائل صباي، وشاقني أن أسيح هنا وأسيح هناك بين مشارق الأرض ومغاربها، ولكنها كانت كلها كما تبين لي بعد ذلك عارضًا من عوارض الصبا التي تنزوي مع الزمن وراء غيرها من الميول المتمكنة في السليقة، فما زالت تضعف وتضعف حتى ليسعني أن أقول اليوم: إنني لولا رياضة المشي التي تعودتها لما خطر لي أن أبرح المنزل أيامًا بل أسابيع. ولذلك سبب مني، فأما السبب الذي مني فبعضه يرجع إلى حب العزلة التي نشأت عليها وورثتها من أبوي … ولكنني أحيا في تلك الأوراق بين أحياء. وألفت بعض الأدباء في قراءة كلامهم فتمثلتهم في ملامح وجوههم وعاداتهم، واستمليت من ديوان شاعر كابن الرومي سيرة حياته أو صورة حياته، وثبت له في خيالي شكل لا يتغير ولا يزال يلوح لي على هيئة واحدة كلما طاف بي طيفه في منام. فإنه سمى نفسه «رهين المحبسين» لملازمته داره وحبسه في جسده، ولكنه شاء أن يرحل في كتاب من كتبه — وهو رسالة الغفران — فلم يقنع بأقل من الرحلة إلى السماء، وإلى الجحيم! وكجول فيرن الكاتب الفرنسي الحديث … فإن ما رآه من جوانب الأرض بالقياس إلى المشاهدات المأثورة عن كبار الرحالين شيء لا يُذكَر، ولكنه ساح بخياله في جوف الأرض، وفي أجواء السماء، بل ساح في عالم الغيب، فوصف للناس مخترعات لم تُخلَق بعد، ثم خُلِقت في أوانها، فإذا هي كما وصف …! حتى قال ليوتي القائد الفرنسي الكبير: إن الناس اليوم «يعيشون أحلام جول فيرن» … ••• لا بد من السياحة إذن في الخارج أو في الداخل! سياحة مع الانتقال، أو سياحة بغير انتقال. والظاهر — لا بل المحقق — أنني أنا أحد الرحالين بغير انتقال، حين علم مرة باعتذاري من تلبية الدعوة إلى كثير من السياحات، لأنني رأيت في هذا المكان ما يراه الرحالون المتنقلون … وشاقني أن أسيح هنا وأسيح هناك بين مشارق الأرض ومغاربها، فما زالت تضعف وتضعف حتى ليسعني أن أقول اليوم: إنني لولا رياضة المشي التي تعودتها لما خطر لي أن أبرح المنزل أيامًا بل أسابيع. ولذلك سبب مني، وسبب من أحوال العصر الذي نعيش فيه. فأما السبب الذي مني فبعضه يرجع إلى حب العزلة التي نشأت عليها وورثتها من أبوي … وبعضها يرجع إلى شعوري بالقراءة التي تعنيني، فإنني أشعر بأنني لا أقرأ سطورًا على ورق، ولكنني أحيا في تلك الأوراق بين أحياء. ومن هنا ألفت بعض شخوص التاريخ كأنني أعاشرهم كل يوم، فإنه سمى نفسه «رهين المحبسين» لملازمته داره وحبسه في جسده، ولكنه شاء أن يرحل في كتاب من كتبه — وهو رسالة الغفران — فلم يقنع بأقل من الرحلة إلى السماء، وإلى الجحيم! وكجول فيرن الكاتب الفرنسي الحديث … فإن ما رآه من جوانب الأرض بالقياس إلى المشاهدات المأثورة عن كبار الرحالين شيء لا يُذكَر، ولكنه ساح بخياله في جوف الأرض، وفي أجواء السماء، بل ساح في عالم الغيب، فوصف للناس مخترعات لم تُخلَق بعد، ثم خُلِقت في أوانها، فإذا هي كما وصف …! حتى قال ليوتي القائد الفرنسي الكبير: إن الناس اليوم «يعيشون أحلام جول فيرن» … لا بد من السياحة إذن في الخارج أو في الداخل! سياحة مع الانتقال، كما لاحظ بحق أحد أصدقائي، وبعضها بغير نفقة على الإطلاق … لأنني رأيت في هذا المكان ما يراه الرحالون المتنقلون … لقد تعلقت بالسياحة في أوائل صباي، وشاقني أن أسيح هنا وأسيح هناك بين مشارق الأرض ومغاربها، ولكنها كانت كلها كما تبين لي بعد ذلك عارضًا من عوارض الصبا التي تنزوي مع الزمن وراء غيرها من الميول المتمكنة في السليقة، فما زالت تضعف وتضعف حتى ليسعني أن أقول اليوم: إنني لولا رياضة المشي التي تعودتها لما خطر لي أن أبرح المنزل أيامًا بل أسابيع. ولذلك سبب مني، وسبب من أحوال العصر الذي نعيش فيه. فأما السبب الذي مني فبعضه يرجع إلى حب العزلة التي نشأت عليها وورثتها من أبوي … فإنني أشعر بأنني لا أقرأ سطورًا على ورق، ولكنني أحيا في تلك الأوراق بين أحياء. ومن هنا ألفت بعض شخوص التاريخ كأنني أعاشرهم كل يوم، وألفت بعض الأدباء في قراءة كلامهم فتمثلتهم في ملامح وجوههم وعاداتهم، في حركتهم وسكونهم، واستمليت من ديوان شاعر كابن الرومي سيرة حياته أو صورة حياته، فإنه سمى نفسه «رهين المحبسين» لملازمته داره وحبسه في جسده، ولكنه شاء أن يرحل في كتاب من كتبه — وهو رسالة الغفران — فلم يقنع بأقل من الرحلة إلى السماء، وإلى الجحيم! وكجول فيرن الكاتب الفرنسي الحديث … ولكنه ساح بخياله في جوف الأرض، وفي أعماق البحار، وفي أجواء السماء، فوصف للناس مخترعات لم تُخلَق بعد، ثم خُلِقت في أوانها، فإذا هي كما وصف …! حتى قال ليوتي القائد الفرنسي الكبير: إن الناس اليوم «يعيشون أحلام جول فيرن» … ••• لا بد من السياحة إذن في الخارج أو في الداخل! سياحة مع الانتقال، أو سياحة بغير انتقال. والظاهر — لا بل المحقق — أنني أنا أحد الرحالين بغير انتقال، كما لاحظ بحق أحد أصدقائي، حين علم مرة باعتذاري من تلبية الدعوة إلى كثير من السياحات، وبعضها بغير نفقة على الإطلاق … لأنني رأيت في هذا المكان ما يراه الرحالون المتنقلون … وشاقني أن أسيح هنا وأسيح هناك بين مشارق الأرض ومغاربها، ولكنها كانت كلها كما تبين لي بعد ذلك عارضًا من عوارض الصبا التي تنزوي مع الزمن وراء غيرها من الميول المتمكنة في السليقة، فما زالت تضعف وتضعف حتى ليسعني أن أقول اليوم: إنني لولا رياضة المشي التي تعودتها لما خطر لي أن أبرح المنزل أيامًا بل أسابيع. ولذلك سبب مني،