كَانَتْ تَسِيرُ وَهِيَ تُفَكِّرُ : - هَذَا الْمَسَاءُ لَنْ يَكُونَ أَبِي رَاضِيًا عَنِّي ! هَكَذَا انْقَضَى الْيَوْمُ وَلَمْ تَتَوَفَقِ الطِّفْلَةُ فِي بَيْعِ أَيَّةِ عُلْبَةِ ثِقَابٍ : وَحَلَّ اللَّيْلُ لَكِنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ الْعَوْدَةَ إِلَى مَنْزِلِهَا ، وَكَانَتْ تُفَكَّرُ وَهِيَ تَمْشِي فِي الطَّرِيقِ الْمُغَطَّاةِ بِالثَّلْجِ : - عَلَى كُلِّ حَالٍ مَا جَدْوَى الْعَوْدَةِ إِلَى الْمَنْزِلِ ؟ فَلَيْسَ لَدَيَّ أُمِّ تَحْنُو عَلَيَّ وَتَضُمُّنِي بَيْنَ ذِرَاعَيْهَا لِتُدْفَتَنِي ؛ وَلَا يُوجَدُ فِي الْمَسْكَنِ مَوْقِدُ نَارٍ يُدْفِنُ جِسْمِي. فَمُنْذُ وَفَاةِ جَدَّتِي الَّتِي كُنْتُ أُحِبُّهَا كَثِيرًا أَصْبَحَ أَبِي تَعِيسًا وَفَظًّا وَعَنِيفًا ! هَذِهِ الطِّفْلَةُ تَعِيشُ حَيَاةً صَعْبَةً : فَهِيَ تَفْتَقِدُ الْعَطْفَ وَالْحَنَانَ مِثْلَ تِلْكَ الْأَعْشَابِ الصَّفْرَاءِ الَّتِي تَنْمُو فِي الْأَمَاكِنِ الْمُظْلِمَةِ الَّتِي لَا تُدْفِنُهَا أَشِعَّةُ الشَّمْسِ وَرَغْمَ ذَلِكَ فَلَمْ تَكُنْ تَتَبَرَّمُ أَوْ تَشْتَكِي مِنْ حَالِهَا، كَانَتِ الصَّغِيرَةُ تَمْشِي وَسَطَ رُكَامِ الثَّلْجِ وَالدُّمُوعُ تَنْهَمِرُ مِنْ عَيْنَيْهَا وَبَعْدَ أَنْ عَرَضَتْ بِضَاعَتَهَا عَلَى بَعْضِ الْمَارَّةِ لَمَّحَتْ زَاوِيَةً بَيْنَ مَنْزِلَيْنِ أَنْهَكَهَا التَّعَبُ فَقَرَّرَتْ أَنْ تَحْتَمِيَ فِي هَذَا الْمَكَانِ. لَيْسَ بِإِمْكَانِهَا الْعَوْدَةَ إِلَى الْبَيْتِ، وَبِالتَّالِي لَمْ تَحْصُلُ عَلَى أَيْ فِلْسٍ، وَهَذَا الْأَمْرُ سَيُغْضِبُ أَبَاهَا وَيُعَرْضُهَا لِضَرْبٍ مُبْرِح ! وَفَضْلًا عَنْ ذَلِكَ فَالْبَيْتُ بَارِدٌ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ مَوْقِدُ نَارِ بِهِ ! لَقَدْ كَانَتْ تَقْطُنُ مَعَ أَبِيهَا مُبَاشَرَةً تَحْتَ سَقْفِ الْبَيْتِ الَّذِي يَتَسَرَّبُ الْبَرْدُ مِنْهُ بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ كُلَّ الشَّقُوقِ سُدَّتْ بِالتَّبْنِ وَالْخِرَقِ. فَفَكَّرَتْ :- مَاذَا لَوْ أَخَذْتُ عُودَ ثِقَابٍ وَاحِدٍ لِأَدْفَأَ بِهِ ؟ أَخَذَتْ عُودَ ثِقَابٍ وَأَشْعَلَتْهُ. أَحَسَّتِ الْفَتَاةُ كَمَا لَوْ أَنَّهَا جَالِسَةً أَمَامَ مِدْفَأَةٍ حَدِيدِيَّةٍ مُزَيَّنَةٍ بِكُرَاتٍ لَكِنْ مَا الَّذِي حَدَثَ ؟ فَعِنْدَمَا مَدَّتِ الْفَتَاةُ رِجْلَيْهَا انْطَفَأَتِ النَّارُ وَاخْتَفَتِ الْمِدْفَأَةٌ ؛ أَشْعَلَتْ عُودَ ثِقَابِ آخَرَ، مَدْتِ الطِّفْلَةُ يَدَهَا الْمُرْتَجِفَةَ لِتُمْسِكَ بِإِحْدَى اللُّعَبِ . أَشْعَلَتِ الْبِنْتُ عُودَ ثِقَابٍ آخَرَ، بَعْدَ انْطِفَاءِ عُودَ الثَّقَابِ كَمَا اخْتَفَى مَوْقِدُ النَّارِ الدَّافِي وَالْإِوَزَّةُ الْمَشْوِيَةُ اللَّذِيذَةُ وَشَجَرَةُ عِيدِ الْمِيلَادِ الرَّائِعَةِ. أَوْ خُذِينِي مَعَكِ ! وَلِكَيْ تَظَلُّ تَتَخَيَّلُ جَدْتَهَا الطَّيِّبَةَ وَقْتًا أَطْوَلَ أَشْعَلَتْ عُودَ ثِقَابٍ آخَرَ وَآخَرَ وَآخَرَ حَتَّى أَفْرَغَتِ الْعُلْبَةَ. ضَمَّتِ الْجَدَّةُ الْحَنُونَةُ حَفِيدَتَهَا إِلَى حُضْنِهَا وَأَخَذَتْهَا مَعَهَا إِلَى مَكَانٍ عَالٍ جِدًّا لَا يُوجَدُ فِيهِ الْبَرْدُ وَالْجُوعُ وَالْوَحْدَةُ وَالْأَحْزَانُ. طَارَتِ الْمَرْأَةُ وَالْفَتَاةُ بِفَرَحٍ وَنَشْوَةٍ مِثْلَ طَائِرَيْنِ سَعِيدَيْنِ بَيْنَ الْأَضْوَاءِ فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي وَجَدَ الْمَارَّةُ جَسَدَ بَائِعَةِ أَعْوَادِ الثَّقَابِ مُمَدَّدًا عَلَى الثَّلْجِ ؛ وَكَانَتْ وَجْنَتَاهَا مُحْمَرَّتَيْنِ مِنَ الْبَرْدِ وَعَلَى شَفَتَيْهَا ارْتَسَمَتْ شِبْهُ ابْتِسَامَةٍ : لَقَدْ مَاتَتِ الْمِسْكِينَةُ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ خِلَالَ لَيْلَةٍ كَانَتْ بِالنَّسْبَةِ لِلْآخَرِينَ حَافِلَةً بِالْأَفْرَاحِ وَالْمَسَرَّاتِ ؛ وَكَانَتْ تُمْسِكُ فِي يَدِهَا الصَّغِيرَةِ الْمُتَجَمْدَةِ مِنَ الْبَرْدِ بَقَايَا أَعْوَادِ الثَّقَابِ الَّتِي أَشْعَلَتْهَا لِتُدْفِئَ جَسَدَهَا النَّحِيلَ. - انْظُرُوا إِلَى كُلِّ أَعْوَادِ الثَّقَابِ الْمُحْتَرِقَةِ حَوْلَهَا : لَا شَكٍّ أَنَّهَا أَشْعَلَتْهَا لِتَدْفِئَةِ جِسْمِهَا. يَا لَهَا مِن ابْتِسَامَةٍ جَمِيلَةٍ عَلَى شَفَتَيْهَا ! لَا شَكٍّ أَنَّهَا سَعِيدَةً ! وَأَضَافَ شَخْصٌ آخَرُ فَظًّ غَلِيظُ الْقَلْبِ : - إِنَّهَا غَبِيَّةٌ صَغِيرَةٌ ! كَيْفَ اعْتَقَدَتْ بِأَنْ أَعْوَادَ الثَّقَاب سَتُدْفِنُ جِسْمَهَا بَكَى الْعَدِيدُ مِنَ الْمَارَةِ وَذَرَفُوا الدُّمُوعَ حُزْنًا عَلَى مَوْتِ هَذِهِ الطِّفْلَةِ الصَّغِيرَةِ الْبَائِسَةِ. لَكِنَّ الْجَمِيعَ لَمْ يَكُونُوا يَتَصَوَّرُونَ الصُّوَرَ الْجَمِيلَةَ الَّتِي شَاهَدَتْهَا الْفَتَاةُ خِلَالَ لَيْلَةِ رَأْسِ السَّنَةِ الْجَدِيدَةِ،