إذا قال قائل: قد عرفنا بطلان مذهب أهل التأويل في باب الصفات، فكيف يكون مذهبهم باطلاً، وقد قيل إنهم يمثلون اليوم خمسة وتسعين بالمائة من المسلمين؟. وكيف يكون باطلاً وقدوتهم في ذلك أبو الحسن الأشعري؟. وكيف يكون باطلاً وفيهم فلان وفلان من العلماء المعروفين بالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم؟. قلنا: الجواب عن السؤال الأول: أننا لا نسلم أن تكون نسبة الأشاعرة بهذا القدر بالنسبة لسائر فرق المسلمين، ثم لو سلمنا أنهم بهذا القدر أو أكثر فإنه لا يقتضي عصمتهم من الخطأ، ثم نقول: إن إجماع المسلمين قديما ثابت على خلاف ما كان عليه أهل التأويل، فإن السلف الصالح من صدر هذه الأمة، كانوا مجمعين على إثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، لأنه مقتضى الكتاب والسنة، وقد سبق نقل الإجماع عنهم في القاعدة الرابعة من قواعد نصوص الصفات. والجواب عن السؤال الثاني: أن أبا الحسن الأشعري وغيره من أئمة المسلمين لا يدعون لأنفسهم العصمة من الخطأ، ونزّلوها منزلتها، وكان في قلوبهم من تعظيم الكتاب والسنة ما استحقوا به أن يكونوا أئمة، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} ، وقال عن إبراهيم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . ثم إن هؤلاء المتأخرين الذين ينتسبون إليه لم يقتدوا به الإقتداء الذي ينبغي أن يكونوا عليه، المرحلة الأولى: مرحلة الاعتزال. المرحلة الثانية: مرحلة بين الاعتزال المحض والسنة المحضة. سلك فيها طريق أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب (١) ، قال شيخ الإسلام ابن تيميه (ص ٤٧١) من المجلد السادس عشر من "مجموع الفتاوى" لابن قاسم: "والأشعري وأمثاله برزخ بين السلف والجهمية، وهي فاسدة" اه. المرحلة الثالثة: مرحلة اعتناق مذهب أهل السنة والحديث. مقتديا بالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وهو من آخر كتبه أو آخرها. قال في مقدمته: "جاءنا يعني النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب عزيز، جمع فيه علم الأولين، وفي الجهل تردى. فقال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} " إلى أن قال: "فأمرهم بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم كما أمرهم بطاعته، واستحوذ عليهم الشيطان، ورفضوها، قد ضلوا وما كانوا مهتدين" ثم ذكر رحمه الله أصولاً من أصول المبتدعة وأشار إلى بطلانها ثم قال: فان قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون. قيل له: قولنا الذي نقول به، ونحن بذلك معتصمون، لأنه الإمام الفاضل، وبعض السمعيات، وقرر ذلك بالأدلة النقلية والعقلية. إرادة وكذلك السمع والبصر على خلاف بينهم وبين أهل السنة في كيفية إثباتها. وكلامه معنى واحد، وهذا معلوم الفساد بالضرورة" اهـ. ط الإمام: واعلم بأن طريقهم عكس ال . ورأوه بالتقليد أولى من سوا . فزعموا أن الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من معني الاستواء واليد مثلاً في الآيات القرآنية هو مشابهة صفات الحوادث. وقالوا: يجب علينا أن نصرفه عن ظاهره إجماعا) قال: "ولا يخفي على أدنى عاقل أن حقيقة معني هذا القول: أن الله وصف نفسه في كتابه بما ظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم الكفر بالله تعالى، والقول فيه بما لا يليق به عز وعلا. والنبي صلى الله عليه وسلم الذي قيل له: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} لم يبين حرفا واحدًا من ذلك، وأحرى في العقائد، لا سيما ما ظاهره المتبادر منه الكفر والضلال المبين، حتى جاء هؤلاء الجهلة من المتأخرين فزعموا أن الله أطلق على نفسه الوصف بما ظاهره المتبادر منه لا يليق، وكل هذا من تلقاء أنفسهم، ولا يخفي أن هذا القول من أكبر الضلال، والحق الذي لا يشك فيه أدنى عاقل أن كل وصف وَصَف الله به نفسه، فالظاهر المتبادر منه السابق إلى فهم من في قلبه شيء من الإيمان، والله لا ينكر ذلك إلا مكابر. والجاهل المفتري الذي يزعم أن ظاهر آيات الصفات لا يليق بالله لأنه كفر وتشبيه، وعدم الإيمان بها، مع أنه جل وعلا هو الذي وصف بها نفسه، ومعطلاً ثانيا، فارتكب ما لا يليق بالله ابتداء وانتهاء، معظما لله كما ينبغي، طاهرًا من أقذار التشبيه، لكان المتبادر عنده السابق إلى فهمه أن وصف الله تعالى بالغ من الكمال والجلال، ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق، على نحو قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} " انتهى كلامه رحمه الله. والأشعري أبو الحسن رحمه الله كان في آخر عمره على مذهب أهل السنة والحديث، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل. ومذهب الإنسان ما قاله أخيرًا إذا صرح بحصر قوله فيه، كما هي الحال في أبي الحسن، كما يعلم من كلامه في "الإبانة". وعلى هذا: فتمام تقليده اتباع ما كان عليه أخيرًا، وهو التزام مذهب أهل الحديث والسنة، لأنه المذهب الصحيح الواجب الاتباع، الذي التزم به أبو الحسن نفسه. فإن الإنسان بشر، يفوته من كمال العلم وقوة الفهم ما يفوته، ولكن يكون ناقص العلم أو ضعيف الفهم، لا يكاد يعرف غيره، ونحو ذلك. وجدنا في هذه الطريق من هم أجل وأعظم وأهدى وأقوم من الذين على طريق الأشاعرة، فالأئمة الأربعة أصحاب المذهب المتبوعة ليسوا على طريق الأشاعرة. وإذا علوت إلى عصر الصحابة والخلفاء الأربعة الراشدين لم تجد فيهم من حذا حذو الأشاعرة في أسماء الله تعالى وصفاته، وغيرهما مما خرج به الأشاعرة عن طريق السلف. ولكن هذا لا يستلزم عصمتهم من الخطأ فيما أخطئوا فيه، ولا قبول قولهم في كل ما قالوه، ولا يمنع من بيان خطئهم ورده، لما في ذلك من بيان الحق وهداية الخلق. وخفي عليه الحق فيه، بل لا بد أن يكون موافقا لشريعة الله عز وجل، فإن كان مخالفا لها وجب رده على قائله كائنا من كان، اعتذر عنه في هذه المخالفة، وإلا عومل بما يستحقه بسوء قصده ومخالفته. فإن قال قائل: هل تكفرون أهل التأويل أو تفسقونهم؟. قلنا: الحكم بالتفكير والتفسيق ليس إلينا، فيجب التثبت فيه غاية التثبت، حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي، ولا يجوز التساهل في تكفيره أو تفسيقه لأن في ذلك محذورين عظيمين: أحدهما: افتراء الكذب على الله تعالى في الحكم وعلى المحكوم عليه في الوصف الذي نبزه به. الثاني: الوقوع فيما نبز به أخاه إن كان سالما منه، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما"، وفي رواية: "إن كان كما قال وإلا رجعت عليه"، وليس كذلك إلا حار عليه". وعلى هذا فيجب قبل الحكم على المسلم بكفر أو فسق أن ينظر في أمرين: أحدهما: دلالة الكتاب أو السنة على أن هذا القول أو الفعل موجب للكفر أو الفسق. الثاني: انطباق هذا الحكم على القائل المعين أو الفاعل المعين، وتنتفي الموانع. ومن أهم الشروط: أن يكون عالما بمخالفته التي أوجبت أن يكون كافرا أو فاسقا، لقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} . ومن الموانع: أن يقع ما يوجب الكفر أو الفسق بغير إرادة منه ولذلك صور: منها: أن يكره على ذلك، فلا يكفر حينئذ، ومنها: أن يغلق عليه فكره فلا يدري ما يقول لشدة فرح أو حزن أو خوف أو نحو ذلك. ودليله ما ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم، قد أيس من راحلته، أخطأ من شدة الفرح". قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله (ص ١٨٠، بل يغفر له خطؤه، ومن تبين له ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، مع أني دائما ومن جالسني يعلم ذلك مني، أني من أعظم الناس نهيا عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، وأني أقرر: أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا بمعصية" وذكر أمثلة، فهو أيضا حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين" إلى أن قال: "والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيبا لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ذروني في اليم، ففعلوا به ذلك، فغفر له. فغفر له بذلك. والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمغفرة من مثل هذا" اهـ. وبهذا علم الفرق بين القول والقائل، وبين الفعل والفاعل، فليس كل قول أو فعل يكون فسقا أوكفرًا يحكم على قائله أو فاعله بذلك، قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله (ص ١٦٥، ج ٣٥) "مجموع الفتاوى": "وأصل ذلك: أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع يقال هي كفر قولاً يطلق، كما دل على ذلك الدلائل الشرعية، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، مثل من قال: إن الخمر أو الربا حلال، ولا أنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها) إلى أن قال: (فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة، كما قال الله تعالى: {لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان" اه كلامه. وبهذا علم أن المقالة أو الفعلة قد تكون كفرًا أو فسقا، إما لانتفاء شرط التكفير أو التفسيق أو وجود مانع شرعي يمنع منه. أو دنيا كان يؤثرها، فإنه يستحق ما تقتضيه تلك المخالفة من كفر أو فسوق. يستضيء بنورهما ويسير على منهاجهما، فإن ذلك هو الصراط المستقيم الذي أمر الله تعالى به، في قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . وليحذر ما يسلكه بعض الناس من كونه يبني معتقده أو عمله على مذهب معين، عالما بغنى ربه عنه وافتقاره هو إلى ربه فهو حري أن يستجيب الله تعالى سُؤْلَه، وصلحاء مصلحين، ويهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب. والحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات. وهادي الأمة إلى صراط العزيز الحميد بإذن ربهم،