أو لنقلْ: هي التي صاغتْ أوَّل هويَّة لجماعة في تاريخ الإنسان، إنَّ اللسان الواحد هو الذي جعل من كلِّ فئة من الناس "جماعة" واحدة، في المنعطفات أو المفاصل التاريخيَّة في حياة الجماعات، وهي منعطفات أو مفاصل ليستْ من نوع واحد، فقد يكون منعطفًا أو مفصلاً حضاريًّا إيجابيًّا تصَّاعد الجماعة، وقد يكون سلبيًّا تتعرَّض فيه للانكسار، وتغزوها رِياحُ التشتُّت والانطماس، وربَّما الغياب عن ساحة الفعل والتأثير، في كِلا الحالين تبرز قضية اللُّغة، وفي الغالب يتمُّ الربط بينهما ويتماهيان إلى درجةِ أنَّهما يكادان يُصبحان شيئًا واحدًا. وفي هذا السِّياق نستحضر بواكيرَ التحوُّل العربي من ضيق القبلية والبداوة إلى سَعة الحضارة والمدنيَّة، وكان أحدَ تجلياتها الواضحة الاتجاهُ الكبير نحو التدوين اللُّغوي، ونشاط الدِّراسات اللُّغويَّة والنَّحْوية، في إشارة واضحة وعميقة إلى التحوُّل في حياة أولئك الأعراب، وشعورهم بأنَّهم أصحابُ هويَّة. الصورة المقابلة صورتنا - نحن العربَ والمسلمين - بعد الحقبة العثمانيَّة، في طريقهم إلى التشرذم والتفكُّك تحت تأثير الانقطاع الحضاريِّ الطويل، وأيضًا تحت تأثير العقل الاستعماري الذي يُريد أن ينهب ويُهيمن ويستتبع، ويومها أيضًا برزت قضية اللُّغة، فقد قُدِّمت اللُّغة العربيَّة على أنَّها بديلٌ للفكر الذي غذاها (الإسلام)، وجُعل العنصران (عُنصرَا هوية الأمَّة)، فإنَّنا سنُركِّز على اللُّغة والهُويَّة، والعَلاقة القائمة بينهما، وإذا كنَّا قد نثرنا إشاراتٍ إلى عُمق تلك العلاقة، لنرصدَ الدوائر التي يلتقيان فيها، والقواسمَ المشتركة التي تجمع بينهما. إنَّ كلاًّ من اللُّغة والهُويَّة خاصية إنسانيَّة، فاللُّغة بالمفهوم الذي أصَّلناه في فقرة سابقة هي لغة الإنسان، فما يجمع بين فصيل من الحيوانات أو سِرْب من الطيور أو نحو ذلك، وإنَّما كانتا (اللُّغة والهُويَّة) خاصيتَين إنسانيتَين؛ وهذا ما يجعلنا نقول إنَّ كلاًّ منهما مرتبط بالعقل، وهذه دائرةٌ جديدة مرتبطة أشدَّ الارتباط بسابقتها، بمعنى أنَّهما قديمتان وُجدتَا مع وجود الإنسان على هذه الأرض، إنَّ الله – سبحانه وتعالى - ميَّز آدم – عليه السلم – بــــ "عِلْم الأسماء"[12]، وما الأسماء في حقيقتها إلاَّ نوع من اللُّغة التي تجعله قادرًا على التفكير فيما يحيط به، ثم إنَّ هذه العملية - عملية التعليم نفسِه لآدم - حدَّدت هُويته ومَيَّزته عن غيره من المخلوقات، فهو كائنٌ مختلف يعرف ما لا يعرفون، أعني: أنَّهما أشياءُ تندرج تحتها أجزاء، وهي أجزاء متداخلة لا يمكن فصلُ بعضها من بعض، اللُّغة تحتوي طرائقَ التفكير والتاريخ والمشاعر، وإرادة الناس وطُموحاتهم وشَكْل علاقاتهم، والهُويَّة أيضًا هي هذه العناصر في كُلِّيتها وتركُّبها. وهُمَا - إضافةً إلى ذلك - تاريخيتان، بمعنى أنَّهما محتاجتان إلى التاريخ أو الزَّمن حتى تتشكَّلاَ وتتعمَّقَا، فأوليتهما يُراد منها الإشارةُ إلى ملازمتهما للإنسان، وتاريخيتهما تُشير إلى ما تحتاجانِ إليه حتى تنضجَا. والمقصود من "الجمعيَّة" أنَّهما لا تعيشان داخلَ الفرد منعزلاً،اللُّغة والهُويَّة هما إذًا وجهان لشيء واحد، بعبارة أخرى: إنَّ الإنسان في جوهره ليس سوى لُغة وهُويَّة، وهذه الأشياء هي وجهه وحقيقته وهُويته، وفي ذلك الإنسان ومقوماته يقول الشاعر القديم ذلك البيتَ الذي نعرفه جميعًا:وعلى الرغم من دوائر الالتقاء بين اللُّغة والهُويَّة فإن من المشروع أن نسأل: هل ثمةَ دوائرُ يفترقان فيها؟والجواب: أنَّ ثمة مَن يضع حدودًا بينهما،