سالي علي* ليس من الصعب على من يقرأ قصص غسان كنفاني أن يلمح صورة التدرج الواعي المتعامد على واقعية صلبة محددة المخبر والمظهر، كأنما كان دائماً يحاول الاقتراب من حدود أهدافه التي يضعها لنفسه في أطوار مبكرة، كأن تكون القصة واقعية مئة بالمئة وفي نفس الوقت تمنح شعوراً هو غير الواقعية المتجسدة. تكاد لا تشذ كثيراً عن تلك القاعدة، إذ حاول غسان كنفاني فيها تطويع طريقة التداعي وانعدام الفواصل بين مونولوجات شخصياته ليجعلها في أوضح المستويات الممكنة، قائمة على نظام محدود السمات مع أن تلك التقنية الفنية تتخذ -لدى غيره من الكتاب- منحى الحلم المبهم المتصف بالإيماء والغموض والتأرجح والتداخل، إلى غير ذلك من فقدان الانضباط لحركة النفس الداخلية. ورغم بلوغ غسان في التزام الواقعية الى درجة يتعذر فيها الفصل احيانا بين الواقع الحضاري والواقع الفني , فإننا لا نستطيع ان نعده وثائقيا في فنه لأنه لم يكن يكتفي بترتيب عناصر الواقع الحضاري على نحو تاريخي متصاعد او متكامل بل كان يعيد ترتيب تلك العناصر ويمنحها التكثيف والتوجيه ويستغل فيها الصور والمقارنات والمفارقات بحيث تجيء خلقاً جديداً هو الواقع وليس به, تدرج أيضاً في طريقة الإفادة من الوسائل الفنية التي كان يظنها كفيلة بتحقيق تلك الغاية فنجده مرةً يعتمد رسم المفارقات والمتناظرات ومرة نجده يلجأ إلى ايثار البساطة الموحية في طبيعة الحوار ومرة ثالثة يستغل عنصر " الامكان" الضروري ومرة يجمع بين هذه الوسائل جميعاً غير انه من البداية إلى النهاية ظلّ مصراً على أنّ خير ما يبلغه هدفه هو طبيعة الشخصيات التي لا مناصَ لها من العيش ضم غطار واقعيته المبتغاة فحين كتبت غسان "أم سعد" كان قد تنازل عن كل فذلكة فنية في سبيل ان لا يدع هناك أية مسافة بين الواقع الحضاري والواقع الفني. أعني بأننا نراها واقعية واضحة بسيطة كأنها دون تعمل لون من ألوان الحكاية من غير أن تتذرع للوصول إلينا بذرائع من فلسفة فكرية أو من إثارة عاطفية أو من تقنية مركبة أو غير ذلكم من وسائل وعناصر. لكن لا ريب في أن جعل القصة واقعية بالقدر الذي أراده غسان يعني التضحية بأمور كثيرة قد كانت تحيط الفن القصصي بمزيد من القدرة على التأثير , وفي مقدمة تلك الأمور قيامُ القصة على الرمز. إن قيام القصة على مبنيين ظاهري وداخلي يمنح القصة عمقاً خاصاً ويجعلها مليئة بالإيحاءات قابلة للفروض والاحتمالات وبقوة الرمز وتجدد ضروب التفسير تحتفظ القصة بالديمومة وتتجدد فيها الطاقات رغم تغير الظروف وعندما أصبحت مواجهة الحقيقة هي الشيء المهم , ولكن هل يظل ها الشعور حياً في نفوس قرائها بمرور الزمن؟ وإنما حاول استغلال المزاوجة بين بناءين ظاهري وباطني , وجرب طريقة الاعتماد على الرمز في الايحاء والتأثير. أي ان الأحداث و الشخصيات ترتبط في زمن واحد. رغم التباعد المكاني , وبتلاعب من القاص في إبراز معنى الزمن بالنسبة لكل منها , وهذا هو الذي حدا به إلى ان يجعل حضور كل شخصية قائما على التداعي وكأن أحاديثها النفسية وأفعالها متداخلة لارتباطها بعنصر الزمن. فكلتاهما تصور محاولة الفلسطيني للهرب من واقعه وسعيه نحو الاستقرار وتشبثه بالحياة على نحو فردي. ولكن الإرادة المسلوبة في الأولى أخذت تتضح وتتطور نحو التشكل في الثانية أما في القصة الثانية فكل شيء يدق و ينبض : مؤشر الزمن سواء كان الساعة في بيت مريم او الساعة التي ألقى بها حامد في حضن الأرض والخطوات التي تدق على صدر الصحراء والجنين ينبض أيضاً , الشهوات تدق , حتى الصمت نفسه ظن غسان بأنه يدق له صوت . كل شيء يتهيأ للولادة وذلك لأن الموت المبكر الذي أصاب سالم الفدائي قد حرك شرارة الانبعاث في كل نفس . غير أن " ما تبقى لكم " تؤكد الحقيقة الكبرى التي أكدتها القصة السابقة لها وهي أن كل طريق بعيدة عن الوطن مرصدة بموت مجاني ومن ثم شهدت الأرض كيف أن " حامد " انحرف في طريقه عما يرده إلى الماضي , إلى أمه,