وكان أبوه يُسمَّى يحيى [يحيى بن سعيد العامري] من سلالة غير عربيَّة، ولا يُعرف متى ولا أين وُلِد عبد الحميد في أرض الشام، وإن كان من المرجَّح أنَّه وُلِد في خلافة الوليد بن عبد الملك (86-96هـ= 705-715م)، وكانت الدولة آنذاك للأمويِّين وعاصمتهم السياسيَّة مدينة دمشق، وأنشأوا فيها الحدائق والدواوين والحصون والقلاع، وأصابها من عناية الأمويِّين ما صارت به قبلة الناس من كلِّ صوبٍ وحدب، وصارت موطنًا رفيعًا من مواطن الثقافة والأدب في العالم الإسلامي، وينتهي بـ الفتح الإسلامي لهذه البلاد في النصف الأوَّل من القرن السابع الميلادي، كما اتَّصل العقل العربي كذلك في مدن العراق بالثقافة الفارسيَّة القديمة خاصَّةً في مدينة البصرة المشهورة، وكان ملوك إيران وخاصَّةً سابور بن أردشير في أواسط القرن الثالث الميلادي، ثقافة عبد الحميد الكاتب تعلَّم عبد الحميد الكاتب اللغة العربيَّة وبلاغة العرب وتفوَّق فيهما، وظهرت مواهبه في الأدب والبلاغة والبيان والخطابة والكتابة، وفي رسالة عبد الحميد إلى الكتَّاب ما يُوضِّح لنا أصول الثقافة الأدبيَّة قي عصره. وقد تتلمذ عبد الحميد في الكتابة على أبي العلاء سالم الكاتب السياسي لـ هشام بن عبد الملك (105–125هـ= 72-743م)، ويروي ابن النديم في "الفهرست" أنَّ أبا العلاء نقل إلى العربيَّة رسائل أرسطو إلى الإسكندر وذلك يدلُّ على تضلُّعه في الثقافة والأدب واللغة اليونانيَّة، وكان أبو العلاء من الواضعين لنظام الرسائل الأدبيَّة ولتقاليد الكتابة الفنِّيَّة، وله رسائل كثيرة كما يذكر ابن النديم، وكان جبلة بن سالم يتولَّى الكتابة السياسيَّة في ديوان الرسائل لهشام -أيضًا- وصديقًا حميمًا لعبد الحميد الكاتب، كما كان صديقًا حميمًا لعبد الحميد ابن المقفع (106-142هـ= 715-760م)، وابن المقفع فارسي الأصل وأحد المترجمين من اللغة الفارسيَّة إلى اللسان العربي كذلك، وذلك كله يدعنا نُرجِّح أنَّ عبد الحميد إلى جانب ثقافته العربيَّة كان يعرف اليونانيَّة والفارسيَّة. وزكي مبارك في كتابه "النثر الفني" يُرجِّح أنَّ عبد الحميد كان يُجيد الفارسيَّة ويعرف آدابها وينقل منها إلى العربيَّة، ويقول زكي مبارك: إنَّ عبد الحميد أوَّل من نقل تقاليد الفرس إلى الكتابة العربيَّة". متأثِّرًا بها أشدَّ التأثير في فصوله الأدبيَّة. أول من وضع الأصول الفنية في الأدب العربي إنَّ عبد الحميد كان جديرًا أن يُعدَّ في عصره وبعد عصره شيخ الكتَّاب وإمام المنشئين والمترسِّلين في الأدب العربي؛ فقد كان أمَّة وحده في بلاغة العبارة، ويُحلِّيها بألوانٍ من الوشى الفتيِّ المطبوع. ويرى الدكتور طه حسين وبعض النقَّاد أنَّ عبد الحميد هو الذي ظهر على يديه النثر الفني في الأدب العربي، وهو الذي أنشأ الكتابة الفنِّيَّة إنشاءً في اللغة العربيَّة، هذه الكتابة التي يعتقد فيها الكاتب على التحبير والتنميق؛ أمَّا هي جملةً فقد تأخَّرت إلى العصر الأموي لتظهر في رأيهم على يدي عبد الحميد الكاتب، وكان لذوقه الحسَّاس أثرٌ كبيرٌ في اتِّسام الكتابة بالسهولة والوضوح، فاشتدَّت الصلة بين كلِّ جملةٍ وأختها، وقل الاقتضاب والاعتراض بين أجزاء الكلام، وابن المقفَّع في رأيهما ورأي تلاميذهما أوَّل ممثِّلٍ للتطوُّرات الجديدة في الإنشاء العربي، وأوَّل مؤلِّفٍ للكتابة الفنِّيَّة الأدبيَّة. "ونهج البلاغة" مشهور مقامه في النثر الفني، وكثيرٌ من الأمم القديمة كان لها نثرٌ فنِّيٌّ قبل الميلاد بكثير؛ فلِمَ لا يكون للعرب نثرٌ فنِّيٌّ بعد الميلاد بخمسة قرون؟ والنثر الفني في الآداب الأوربيَّة لم يزدهر بين عشيَّةٍ وضحاها؛ فَلِمَ لا يكون كذلك في الأدب العربي؟ بدليل أن النثر الفني عند ابن المقفع هونثر متقدم حي خلاق وليس بدائيا، وتشك كل شك في أن ابن المقفع كتب هذا النثر الفني الرفيع دون أن يكون له سابقون في تاريخ الأدب العربي القديم. النثر الفني وجد قبل القرآن وصاحب نزول القرآن وتأثر به تأثرا عظيما ثم اتصل العرب بالآداب الأجنبية التي ظهرت آثارها في كتابهم الأدبية منذ أوالقرن الثاني الهجري على يدي عبد الحميد وابن المقفع، والأحوال الاجتماعية الجاهلية التي يرى الدكتور طه أنها لم تكن تساعد على نشأة النثر الفني لا يمكن أن يشترك فيها عرب نجد وعرب الحجاز في الحكم على حد سواء، فإذا جاز لنا أن نقول عن العرب النجديين القدماء أن حياتهم لم تكن تساعد على إنشاء النثر الفني فإنه لا يجوز لنا أن نذهب هذا المذهب ونحكم به على عرب الحجاز القرشيين الذي عرفوا الحكومة السياسية المنظمة وطبقوها في مكة، أثر عبد الحميد الكاتب في الكتابة الأدبية إنَّ عبد الحميد بلا ريب كان ذا أثرٍ كبيرٍ في الكتابة الأدبية في عصره؛ فهو الذي سهَّل سبيل البلاغة في الترسل، وعنه أخذ المترسلون وهو أحد الذين كتبوا الفصول الأدبية كما كان يفهمها علماء البيان من اليونانية كما يقول الدكتور طه، وقد ساعد عبد الحميد على إحداث هذا التأثير الأدبي الكبير الذي ظهر في صورة مذهب فني جديد في الكتابة ما يلي: 1- نضج الثقافة العربية الإسلامية من علوم الدين واللغة والأدب، وخطب الرسول ووصاياه وخطب الخلفاء والصحابة وبلاغات البلغاء وحكمهم ومأثور كلامهم، وبخاصة خطب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وحكمه. 3- أثر القرآن الكريم والحديث النبوي في تهذيب الألسنة وترقيق الطباع ووضوح الملكات. 4- اتصال العقل العربي بالآداب الأجنبية وتأثره بثقافات الفرس واليونان والرومان والهند وغيرهم. وجعلها صناعة فنية عتيدة إلى جانب اتساع أعمال الدولة، وديوان الرسائل الذي كان يتزعمه كبار الأدباء والكتاب ممن أنشأوا الرسائل البليغة على ألسنة الخلفاء والأمراء. وكان لقدرته على الإيجاز في موضعه والإطناب في موضعه يتخيَّر لكلٍّ منهما محلَّه الذي يُناسبه؛ كالإتيان بكثيرٍ من التحميدات في أساليب متنوعة وصور مختلفة، وكالبدء ببسم الله ثم اتباعها الحمد لله، فاصلًا بينهما بأمَّا بعد، وبهذا عُدَّ عبد الحميد من أوائل من وضعوا الأصول والتقاليد الفنية في النثر الفني العربي وفحالته الأدبية. وقد أكثر عبد الحميد من الرسائل الإخوانية التي ينشئها الكتاب البلغاء فتحمل ما في قلوبهم من مودة وإخاء،