أمامة بنت الحارث الشيبانى كانت زوجا لعوف بن محلم الشيبانى و كانت تتصف بالحكمة و العقل و الفصاحة وسداد الرأى و قوة البيان ، تلك الأم الأعرابية هي وفتاتها المقبلة على عش الزوجية هي أم إياس ، خلت بها أمها وقد عرفت ما يسعد الرجل ، لتوصيها ليلة زفافها بتلك الوصية الثمينة ، التي ينبغي أن تفهمها كل أم وكل زوجة وكل فتاة ، وكأنهـا تقـول لفتاتهـا ولكـل نساء العالم : إن المرأة إذا أدت ما عليها حصلت على حقوقها تبعا لذلك دون أن تمسك الأبواق للمطالبة بحقها ، ودون أن تلجأ إلى المحاكم والقضاء وقوة عقلها ، وأدب وبيان ، فمضت حتى انتهت إلى أمها ، فأعلمتها بما قدمت له ، فأرسلت أمامـة إلى ابنتها ، وقالت : أي بنية ! هذه خالتك ، فلا تستري عنها شيئا إن أرادت النظـر مـن وجـه أو خلـق ، أي بنية , وكنت أغنى الناس عنه, انك فارقت الجو الذي منه خرجت , وخلقت العش الذي فيه درجة, فأصبح يملكه عليه قريب و مليكا , أي بنية , ومن القيم التربوية الاولى في الوصية : وهي قيمة تربوية عالية تضمن للزوجين استقرارا أسريا في حياة زوجية جديدة, وتتمثل بلاغة القيمة التربوية هنا في مقدمة الوصية في مهارة عرضها الفعال وهو مايعرف في البلاغة ب "براعة الاستهلال " وبراعة الاستهلال لها نصيب كبير من ضمان اصغاء السامع وشد انتباهه , وتبدو براعة الاستهلال في عرض هذه الوصية القيمة من رواة الأدب العربي . والقيمة التربوية الأولى هنا تتمثل في أن الأمهات يجب أن يجلسن مع فتياتهن قبيل الزفاف لاسداء النصح اليهن , وقد جاء اللون البديعي الخلاب في مقدمة الوصية منسجما مع ما تشتمل عليه من قيم تربوية واجتماعية راقية, خلت بها أمها "أمامة بنت الحارث"وقالت توصيها: وقد بدت براعة الاستهلال هنا في عرض الوصية بايجاز شديد يبرز مقامها وزمانها وشخصياتها, وهي جملة :"أن تحمل. ",وجملة جواب "لما"وهي":"خلت بها أمها. ",والجملة المعطوفة عليها:"وقالت توصيها". وهذا العرض البارع في جذبه وايجازه يجعل السامع حاضر الذهن مشدودا, يضمن المتحدث عدم شروده أو ملله ويتأكد من السيطرة عليه وضمان الأصغاء اليه. فهو يشعر يتوصيف بالغ بمادته الى احساس الفتاة بفراق بيت والديها , وحلول أجل الفراق لا محالة استعدادا لحياة جديدة , أي لما حان حمل, ومجيئه هكذا أبلغ من المصدر الصريح, حيث أتاح الفعل المضارع الذي دخلت عليه"أن" مساحة للدلالة على أنها لم تحمل بعد و أنها ستحمل في الغد القريب لا محالة. وقد عرف المسند اليه: "نائب الفاعل":أم اياس"بالعملية عن طريق الكنية وهي لم تتزوج بعد ولم تلد حنى تصير أما , تكريما لها وصونا لاسمها أن يذكر, وهذه عادة العرب حيث كانو يكنون بناتهم وفتياتهم حتى قبل الزواج , وجاء متعلق فعل الحمل جارا ومجرورا:"الى زوجها الحارث بن عمرو ملك كندة"مع أنه لم يصر زوجها بعد, باعتبار ما سيكون على طريقة المجاز المرسل, و"الى:غائية تشعر أن الزوج غاية كل امرأة ومطمح امالها ونهاية حلمها: ليبرزأنها زفت الى ملك وليس أي ملك, ان ملك كندة, فلما كانت ليلة الزفاف خلت بها أمها لتوصيها بهذه الوصية. وخلو الأم بفتاتها لترفع عنها الحرج في النصح أمام أخواتها أو غيرهم وقد نصت الرواية على اسمها:"أمامة بنت الحارث"وكانت من حكيمات العرب المشهورات بالعقل الراجح والرأي السديد, وقد أبرز الفعل المضارع:"توصيها"بصيغته تجدد الوصية على لسانها حسب مقتضيات الحاجة والمقام, حيث تزف الفتاة الى ملك من ملوك العرب. احتوت بداخلها جملا ثلاثا مع عدم الاخلال بالمعنى , حيث نصت من خلالها, فهي وصية أم لابنتها ليلة زفافها على ملك له قدرة وخطره , وقد أبرز النص على أسماء الشخصيات مع ذكر بعض صفاتهن ثقل الوصية , والفتاة من جميلات النساء , وافرة العقل والجمال, ولذلك ضمن هذا الاستهلال البارع جذب انتباه السامع والاستيلاء على قلبه وعقله قبل سمعه وبصره. وفيها كذلك لون من ألوان التشويق , حيث ان القلوب بطبيعتها تتشوق الى معرفة ما يتعلق أو ما يصدر من الحكماء والملوك , ولذلك خرجت تلك الوصية الذهبية في أبهى حلة و أجمل صورة , وانما هو من باب الذكرى تقول:أي بنية , ولو أن امرأه استغنت عن الزواج لغنى أبويها , وشدة حاجتهما اليها , كنت أغنى الناس عنه , ولهن خلق الرجال". والقيمة التربويه هنا تتمثل في حرص الام على بث الثقة في نفس ابنتها, فقد جمعت بين الأدب الجم وغنى الوالدين, ومع ذلم فهي تحتاج للوصية, لان الوصية تذكرة للغافل ومعونة للعاقل. واختيار "أي"من بين أدوات النداء , فأقرب انسان الى الفتاه هو أمها, وصغرت المنادى "بنية", تركت لذلك منك "والمخاطب وهو الفتاة , خالية الذهن فحقها أن يلقى اليها الخبر ابتدائيا خاليا من التأكيد , وهي منقادة سامعة مطبعة لأمها, دفعا لتوهم الفتاة أن تكون أمها حريصة على وصيتها شكا منها في أخلاقها أو أدبها , وقد علقت الأم الحكيمة افتراض ترك الوصية على زيادة الأدب بأسلوب الشرط ب"لو", وهي حرف امتناع لامتناع , وهي تربط أجزاء الجملة ربطا قويا , لمناسبتها لمقام الحديث الحاني من أم لابنتها ليلة زفافها , وبنت الفعل للمجهول "تركت لأدب" وانما قالت :"لفضل أدب" لتشير الى عموم حكمتها وشيوع قضيتها ، ولم تقل :" لو تركت لأدب" وانما قالت :"لفضل أدب ، ويبعد عن الفتاة الشوائب الارتياب أوالشك في ثقة أمها بها ، وشدة حاجتهما اليها ، كنت أغنى الناس عنه ولكن النساء للرجال خلقن ولهن خلق الرجال ) لتبرز تلك الحقيقة الانسانية التي فطر الله . وهي تمثل حاجة الرجل للمرأة والعكس وتلك الفطرة لا مجال لاستغناء احدهما عن الاخر. والاسلوب خبري مجرد عن التأكيد ، لانه يقرر حقائق انسانية مجردة وفطرة واقعية . تنكير المسند إليه " امرأة " طبع كلامها بطابع العموم ، لتبرز صفة افتراضية جدلية لتلك المرأة المتوهمة حيث لا وجود لها في الحقيقة والواقع ، ، وأبرزت لام التعليل سبب هذا الاستغناء المزعوم : " لغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها " ، فالمرأة هنا تحصل لها من أسباب العزوف عن الزواج ما يعوضها عن الزوج من ناحية وهو غنى أبويها ، حيث نزل بهما الهرم وحلت الشيخوخة والضعف ، وكثرت الأمراض وصارا في أشد الحاجة لفتاة تخدمهما ، لا سيما إذا كانت هي الوحيدة بعد زواج أخواتها ، أو الكبرى مثلا ، ومع وجـود هذه البواعث والأسباب التي تدعو للعزوف عن الزواج ، وعدم الرغبة فيه عقلا ، إلا أن المرأة لا تستغني عن زوجها فطرة ، وقد توفر ذلك في " أم إياس " عروس الليلة ، ولذلك أفصحت الأم عن ذلك بجـواب " لو " وهو قولها : " كنـت أغنـى الناس عنه " ، وهذا الجواب يوحي بأمرين : ـ أولهما : أن الفتاة ذات أصل وحسب ونسب ، وانحدرت من بيت عز وغنى ورفاهية ، وانما هو صفة لهما جميعا : " لغنى أبويها ، وهذه وحدها كفيلة لزرع جذور الثقة في نفس الفتاة ، والأمر الآخر : هو " شدة حاجتهما إليها " وهو يدل على ضعفهما في هذا الزمان وعظم احتياجهما للفتاة . إن الأم قد ساقت عللا افتراضية أقرب إلى العقل والواقع ، وبدأت بالنساء ؛ لشدة حاجـة الرجـل للمـرأة ، وكأنها تهيئهـا يـذلك لاتخاذ بيت زوجها مصدر أمن وأمان لها فهو مستقرها ولا غنى لها عن أحضانه ، ولا بديل عن ذلك بضوابطه الشرعية حتى تستقيم عجلة الحب والتضحية والعطاء. : " أي بنية ، إنك فارقت الجو الذي منه خرجت ، إلى وكر لم تعرفيه ، وقرين لم تألفيه ، أي بنية ، وهنا تعود الأم إلى نداء ابنتها بهذه الصيغة : " أي بنية " ، للحرص على إبراز قربها الشديد من فتاتها ، وفي تكرار النداء بصيغته إشارة إلى حرص الأم على جذب انتباه ابنتها التي تتأهب للانتقال إلى بيت زوجها ، فالفتاة تعرف أنها ستفارق بيت أبيها إلى بيت زوجها : " إنك فارقت الجو الذي منه خرجت ، ولكنها أرادت أن تذكرها بمقتضيات الحياة الجديدة ، وأنها ستكون حياتها الأصلية ولن تعود لبيت أبيها إلا أن تكون زائرة . فحقها أن يلقى إليها الخبر ابتدائيا خاليا من التأكيد ، وهما " إن " واسمية الجملة ؛ لما بدا عليها من أمارات القلق والتوتر والتأكيد ينقل لنا الحالة النفسية التي كانت عليها الفتاة من شدة تعلقها ببيت أبيها وتوجسها من القدوم على عش جديد غامض المعالم مبهم الأسرار . وقد اختارت لفظ الفراق للإشارة إلى أنه فراق بلا عودة إلا للزيارة . وفي ذلك زج بالفتاة في قلب الحدث ، وتكليف لها بتحمل المسؤولية واشعار بجدية. الأمر ، ومن ثم انعكس ذلك عليها سلبا ، قد تنجح وقد تفشل وتعود لبيت أبيها إن أمامة أصدرت قرا ر الفراق " إنك فارقت الجو الذي منه خرجت " مؤكدا هكذا لتغلق أبواب التردد والمماطلة ووساوس الشيطان أمام ابنتها ، والجـو : الهواء ، والجـو ما بين السماء والأرض ، وهي كناية عن بيت أبيها ، لأن لفظ الجـو يـعنـي الـهـواء الذي استنشقته والعادات التي نشأت عليها ، وعبرت بالماضي ' فارقت " مع أنها لم تفارق بعد ، فزمان الوصية ليلة العرس . وما أجمل أن تعتبر الأم بيت زوجها عشا لصغارها : " وخلفت العش الذي فيه درجت " ، حيث شبهت بيت أبيها بعش الطائر ، ثم استعارت العش لبيت أبيها وهي استعارة عميقة تتغلغل في حنايا النفس البشرية لتبرز لك هذه الصورة الدافئة في ثوب حسي ، تـراه بعينيك وتلمسـه بيـديك وتشـعر بـه بـحسـك ومشاعرك ، فالوالـد كالطائر الذي ينطلـق صـباحا ليـوفر لفراخـه وصـغاره لقمـة العيش ، ويعـود مساء ليقـوتهم ويحميهم مـن غوائـل الزمـان ونـوازل الحـدثان وظلـم الظالمين وتطفـل المتطفلين ، تديره أم بارعة وأب حنون ، ويبثان في أعطافه الدفء والحنان وقد عبرت هنا بالفعل " خلفت " ؛ للإشارة إلى الترك وضرورة عدم تعلق القلب . . ببيت أبيها ولاحـظ الجنـاس الناقص بين : " خرجت " و " درجت " ، ومادة كل كلمـة موافقة لسياق جملتها ، فالخروج ابتداء يكون من بيت الوالد ، ولذا عبرت معه بمن الابتدائية " الذي منه خرجت " وخروجها من بيت أبيها يكون وهي فتاة غضة جاهزة للزواج ، والدرج والدرجان يناسب تنقل الصغير في ربوع البيت ولعب الفراخ في حضـان العش ، قـال فـي اللسـان : " والـدرجان : مشية الشيخ والصبي ، ودرج الشيخ والصبي يدرج درجا ودرجانا ودراجا فهو دارج : مشيا مشيا ضعيفا ودبا فالدرج يتوافـق مـع نشأة الفتاة وهي صغيرة ، واختيار حرف الظرفية " في " في قولها : " الذي فيه درجت يشعر بظرفية العش وأنه وطاء ممهد تدرج فيه الصغيرة حيث شاءت ثم قالت : " إلى وكر لم تعرفيه وقرين لم تألفيه " والوكر : عش الطائر الذي يبيض فيه ويفرخ وهو الخروق في الحيطان والشجر وقال في أساس البلاغة : " ما دار في فكري نزولك في وكري . فـي قـول أمامة : " إلى وكر لـم تعرفيـه " استعارة تصريحية أصلية ؛ بجامع الدفء والاحتضان والرعاية في كل منهما ، ووراءها إشعار بدفء الحياة الزوجية في أحضان بيت يقوده زوج حكيم يعرف ماله وما عليه . لإلفها للأول وهو بيت أبيها ، وغموض الثاني بالنسبة لها ، بينما نكرت الوكر مع الزوج ، لغموضه ، وهـي كلمـة تـوحـي بالرهبة بمادتها بخلاف العش مع بيت أبيها الذي يوحي بالدفء والأمان ـم صـرحت بصـاحب هـذا الـوكر وهـو زوجهـا فقالت : " وقـريـن لـم تألفيـه فزوجها هو قرينها ؛ وكلاهما من مخرج واحد وهو الحلق ، فالإلف يقتضـي المعرفة بلا عكـس ، والمعرفة مناسبة للوكر لأنه مكان ، والإلف مناسب للزوج ، ولاحظ ذكر الوكر والقرين : ـ الأول : يشعر بالدفء . كما سبق . والغموض ، فقد ذكروا عن الوكر أنه عش الطائر الذي يبيض فيه ويفرخ ، وهو الخروق في الحيطان والشجر . وفيه كذلك تفاؤل بإنجاب الولد يؤخذ ذلك من قولهم موضع الطائر الذي يبيض فيه ويفرخ والثاني : وهو القرين يشعر بدوام الملازمة والصحبة وعدم الانفكاك من أسره أو رباطه ، فكأنها تهيئها لحياة أبدية . ثم قالت : " فأصبح بملكه عليك رقيبا ومليكا ، وأنها بمجرد عقد زواجها صار زوجها مليكا عليها ورقيبا ، بل ومن متطلبات المرأة السوية كاملة الأنوثة ، ووراء هـذا الوصف إيحاء لابنتها بأن تراعي تلك الرقابة التي ستكون عليها ومن ثم تصون نفسها من الزلل ، لكنها قبل أن تفصل الخصال العشر تتحفها بهذه الهدية الذهبية العامـة : " فكـونـي لـه أمـة يكن لك عبـدا وشيكا " والوشيك : السريع والقريب لأنه تشبيه حال بحال ووجه الشبه مركب ، فهي لم تقصد أن تشبهها بالأمة فحسب ، والنتيجة : " يكن لك عبدا وشيكا " فالجزاء من جنس العمل ولام الملك أو التخصيص جاءت معها كذلك ردا لمعروفها وحسن عشرتها لزوجها إنه لن يكون لها كالعبد في الذلة والانكسار وإنما يكون حاله معها كحال العبد مع سيده في الموادعة وحسن السمع والطاعة والخوف عليه ، وانما عبدا وشيكا ،