كان سليمان الحلبي يمشي بخطى متئدة مبتهجًا بالهواء الذي يهب فيما حوله، مسقطًا الأوراق الصفر من الأشجار المنتصبة على جانبي الشارع، وكانت يداه قابعتين في جيبي بنطاله كطفلين نائمين. وحين توقف لحظة عن السير ريثما يشعل سيجارة، وارتبك إذ عرف مهنتهما. وأعاد الرجلان إلى سليمان أوراق هويته، وسار وهو يقول لنفسه: لا بد من أن ثمة سوء تفاهم. واقتاده الرجلان إلى مخفر غير بعيد، وأدخلاه إلى غرفة لها ثلاث نوافذ مفتوحة للشمس والهواء والسماء. وكان يجلس في صدر الغرفة رجل ذو شارب أسود، تكومت على سطحه أكداس من الورق الأبيض. وقال الرجل الأسود متسائلاً: (هل أنت سليمان الحلبي). فأحنى سليمان رأسه بالإيجاب دون أن يتفوه بكلمة. وتناول الرجل الأسود ورقة بيضاء موضوعة على المكتب، وطفق يقرأ برتابة وكسل: (في ليلة السادس من حزيران، شاهد سليمان الحلبي حلمًا قتل فيه الجنرال كليبر). وتوقّف الرجل الأسود عن القراءة، وتطلع إلى سليمان الحلبي بعينين صارمتين، بينما تحوَّل الرجلان إلى تمثالين من حجر، مسمَّرين قرب إحدى النوافذ. وتساءل الرجل الأسود مخاطبًا سليمان : ( هل هذا صحيح?). فغمغم سليمان الحلبي مستنكرًا: (لا، فالتفت الرجل الأسود نحو الرجلين، وقال لهما: (أحضرا الشهود). غير أن باب الغرفة فُتحَ بعد لحظات، ودلف إلى الداخل ثلاثة أشخاص، ووجوههم صفر كأن أصحابها عاشوا مئات السنين في قبور تمقت الشمس. وكانوا رجلاً هرمًا وامرأة كهلة وفتاة في مقتبل العمر. وقال الرجل الأسود: (ليتقدم الشاهد الأول). وابتعد الهرم منفصلاً عن المرأة الكهلة والفتاة، واقترب من مكتب الرجل الأسود، وقال بصوت كأنه منبعث من أسطوانة عتيقة تدور بتثاقل تحت ذراع الحاكي: (في ليلة السادس من حزيران، شاهدت سليمان الحلبي يقتل الجنرال كليبر). وتابع كلامه قائلاً: (أبصرته يطلق من مسدس ضخم سبع رصاصات اخترقت جسد الجنرال، وكان الحزن في تلك اللحظة فارسًا يمتطي صهوة جواد غير مروض، بينما غرس الفارس سيفه في القلب تمامًا. إنما سمع الرجل الأسود يقول: (الشاهد الثاني). ووقفت بجانب الرجل الهرم، وقالت: (رأيته يقتل الجنرال، وكان يحمل فأسًا رفعها إلى أعلى، وأهوى بها بكل قوته، فشطر الرأس إلى قطعتين، واستطعت رؤية النخاع ممزقًا خارج الجمجمة المهشمة). وأشارت نحو سليمان الحلبي بأصبع لا ترتجف، وقالت له: (أمك امرأة واحدة فقط). يلعب في الزقاق ملطخًا ثيابه بالطين، فوقفت أمه على عتبة باب البيت، وكشفت عن صدرها الشديد البياض، وقالت له منادية بحنو: (تعال تعال). وقال الرجل الأسود: (الشاهد الثالث). وتطلع سليمان الحلبي إلى الفتاة بنظرات أسيانة. فدمدم الرجل الأسود بغضب: (الشاهد الثالث. غير أنها بدأت الكلام قائلة: (رأيته راكبًا سيارة، ومرت فوقه عدة مرات حتى تحول لحمًا لا شكل له). وصاح سليمان الحلبي: (ماذا حدث يا أختي! ألم أتركك في البيت وقد طلبت إلى أن أشتري لك مشطًا). وأخرج يده من جيبه حاملة مشطًا أسود اللون. وقال الرجل الأسود: (لينصرف الشهود). وأشار بيده بحركة ضجرة إلى الشهود الثلاثة، فتجمعوا في الحال متلاصقين في كتلة واحدة، وضع الرجل الأسود سيجارة بين شفتيه، وحين رفع يده نحو السيجارة حاملة عود الثقاب المشتعل، لاحظ سليمان أن يد الرجل الأسود غريبة، فكأنه جلد سرطان ميت، ظل زمنًا مديدًا تحت شمس قاسية. ونفث الرجل الأسود دخان سيجارته، بينما كان يتلوى صاعدًا في جو الغرفة ثم يتلاشى بتكاسل. وقال لسليمان: (هل سمعت ما قيل الأدلة على جريمتك ثابتة). وقال بصوت بارد قاس: (لماذا ولدت ما دمت بريئًا جئت إلى هذا العالم كي تهلك، وكنا نراقبك منذ أمد طويل، فالناس المشبوهون نعرفهم بسرعة ولا يستطيعون خداعنا). وتناول الرجل الأسود أوراقًا بيضًا من على سطح المكتب، وأخذ يقرأ ما كتب فيها: (في الثالث من نيسان في الساعة الحادية عشرة وثلاث دقائق، تطلع سليمان الحلبي إلى القمر، وقال لنفسه: القمر سعيد لأنه لا يعيش في مدينة حاكمها الجنرال كليبر). وكان قمرًا تهرول نحوه سحب قرمزية. فتح سليمان الحلبي أبواب أقفاصه وأطلق سراح عصافيره). وتذكر سليمان رغبة في البكاء اجتاحته بينما كانت العصافير في بدء انطلاقها عبر الفضاء الأزرق ترفرف بأجنحتها بارتباك واضطراب. - (وفي الساعة الثانية من بعد ظهر يوم الثاني من حزيران خطر في ذهن سليمان الحلبي أن العالم سيكون سعيدًا لو هلك بعض الأشخاص). ورمى الرجل الأسود الأوراق على المكتب بحركة ساخطة، وقال: (ألم أقل لك إن أمثالك لا يستطيعون خداعنا?). وظل سليمان صامتًا وقد استغرب أن ينمو في أعماقه شعور حقيقي بالذنب، ولكنه كان في الوقت نفسه شديد الاقتناع ببراءته. وقال: (ستعدم في الساعة السادسة). فألقى سليمان نظرة سريعة على ساعته، فألفاها توشك أن تصبح السادسة، وعَدَّه مجرد حلم سيصحو منه بعد لحظات على هزة من يد أمه وسيسمع صوتها. وقال الرجل الأسود بتشف: (ستعدم). وقال: (انتهت المحاكمة. وتناهى إلى سمع سليمان صفير قطار. لا بد من أن القطار يهدر الآن مارّا تحت الجسر، قاذفًا دخانه في سحابة صغيرة لن تعيش طويلاً، وستضمحل إثر ابتعاد القطار. - (هل ستطلق النار علي). وأشار إلى الرجلين قائلاً: (هيا. نفذا الحكم بالإعدام). والمدينة مستسلمة بفتور لضياء الشمس الآفلة. وكانت كامرأة ترغب في النوم قليلاً بعد أن أنهكها العمل من أجل أولادها. ولم يخجل من وقوفه عاريا عريا كاملاً أمام أعين الرجال الثلاثة. وكانت السيارات تعبر الشوارع وهي تزعق بأبواقها عند المنعطفات. وأخرج الرجلان من خزانة خشبية مدية كبيرة، وكان بجانب الرجل الأسود منضدة قصيرة القوائم، يقبع فوقها مذياع صغير، مدّ إليه الرجل الأسود يده. وبعد قليل انسابت منه أغنية لامرأة، صوتها مفعم بالعذوبة والشجن، ويتلاقى فيه الريح والمطر والحنان العارم. وأنصت الرجلان قليلاً للأغنية، ثم تحولا جلادين، وبترا أصابع اليد اليمنى بالمدية، وكان باستطاعتها في لحظة غضب خنق مخلوق ما وقال الرجل الجلاد لزميله: (يا لها من أغنية! ماذا تغديت?). فأجاب الرجل الآخر: (حساء وقليلاً من الخبز. وأشعل الرجل الأسود سيجارة أخري، وتركها معلقة بين شفتيه لتحترق على مهل. فتأوه وأطلق صرخة حيوان، ولقد كان سليمان يحلم بأن تنام الفتاة التي سيحبها على ساعده لا على وسادة محشوة بالصوف أو القطن. وقال أحد الرجلين بينما كانت أصابعه تلتف حول مقبض المدية كأنها تتوق إلى أن تصير قطعة منها: (ليلة أمس شاهدت فيلمًا وكان سخيفًا). - (كل الأفلام سخيفة في هذا الأسبوع). وكانت أغنية المذياع تصعد وتبوح بالعذاب المرّ الذي يبقي إثر اندثار الحب. وكان مرفقًا يتكئ على حواجز الأنهر ومناضد المقاهي، وجثا أحد الرجلين على ركبتيه، وبتر الذراع اليمنى كلها بحركة سريعة، بينما كان الرجل الثاني يمسك بسليمان لمنعه من الحركة. ويتلوى على الأرض الناعمة الملساء بينما الدم يتابع تساقطه ذا الإيقاع الكئيب. وفتحت دور السينما أبوابها، وغادرها روادها بخطى متثاقلة. ولو كان سليمان الآن متسولاً يمشي في الشوارع لاستدر الشفقة ولانهمرت النقود عليه، فهو بلا ذراعين، وإذا جاع فمن سيضع اللقمة في فمه?! وكان الرجل الأسود يبتسم منتشيا بالأغنية المنبعثة من المذياع. وتابع الرجلان عملهما، وابتدأ جسد سليمان الحلبي ينقرض متضائلاً رويدًا رويدًا، وكانت الأعضاء المقطوعة تلقى جانبًا. وكان الناس في الشوارع يسيرون على الأرصفة، وبعضهم يقف قليلاً أمام واجهات المكتبات متطلعًا إلى عناوين الكتب والجرائد. وكانت أصوات بائعي أوراق اليانصيب تتصاعد مطاردة المارة بإلحاح: (ستربح مئة ألف ليرة). وكانت الباصات تواظب على المسير متوقفة بين الحين والحين في أمكنة معينة. وقال الرجل الأسود مخاطبًا الرجلين: (لننته بسرعة. لا بد من أن ضيوفه ينتظرون مقدمه، ولا بد من أن زوجته ترحب بهم، ويشعر الآن بأنه يحبها بضراوة. وكان الرجلان في تلك اللحظة متغضني الجبين، وقال الرجل الممسك بالمدية لزميله: (إلى أين تنوي الذهاب بعد العمل). - (أنا سأذهب إلى البيت. ووضع حد المدية على عنق سليمان الحلبي، وأغمض سليمان عينيه بينما كان يحس بنصل المدية يلامس حنجرته موشكًا على ذبحها، وشاهد نجومًا تبزغ كأنها عصافير ميتة. وجمع الرجل الجلاد قوته، وفصلت الرأس الذي تدحرج مبتعدًا عن قطعة اللحم الباقية، وظلت عينا سليمان الحلبي مفتوحتين، ووضع في جيبه علبة السجائر، ثم سار متجهًا نحو باب الغرفة، وعندما أمسك مقبض الباب التفت نحو الرجلين، وقال لهما: (نظفا الغرفة قبل ذهابكما). وعندئذٍ تذمر الرجلان بأصوات مرتفعة .