ولهذا خاطب القرآن الكريم في المقطع الثاني والمقطع الثالث المجتمع البشري في مراحل متعددة وذكرهم بأن الله قد جعلهم خلائف في الأرض، خط الخلافة وركائزه العامة ان الله سبحانه وتعالى شرف الإنسان بالخلافة على الأرض، كذلك تحدث عن تحمل الإنسان لأعباء هذه الخلافة بوصفها أمانة عظيمة ينوء الكون كله بحملها . إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَينَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا والإيمان بسيد واحد ومالك واحد للكون وكل ما فيه، « لا إله إلا الله » : ( صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ) (۱) . يَا صَاحِبَي السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ ) (٢). ثانياً : إقامة العلاقات الاجتماعية على أساس العبودية المخلصة الله ، وتحرير الإنسان من عبودية الأسماء التي تمثل ألوان الاستغلال والجهل والطاغوت : ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا ) (۳). فمن الطبيعي أن يكونوا إخوة متكافئين في الكرامة الإنسانية والحقوق كأسنان المشط على ما عبر الرسول الأعظم (4). جهاداً : ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ) (٥). رابعاً : أن الخلافة استثمان ولهذا عبر القرآن الكريم عنها في المقطع والأمانة تفترض المسؤولية والإحساس بالواجب : إذ بدون وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) (۱). من المقاطع القرآنية المتقدمة (۲) المرتبطة بالخلافة. وهذا يعطي مفهوم الإسلام الأساسي عن الخلافة، وقيادة الكون وإعماره اجتماعياً وطبيعياً، الجماعة البشرية حكم نفسها بوصفها خليفة عن الله . تعني : أولاً : انتماء الجماعة البشرية إلى محور واحد وهو المستخلف - أي الله سبحانه وتعالى - الذي استخلفها على الأرض بدلاً عن كل الانتماءات الأخرىإدراك الكائن أنه مسؤول لا يمكن أن ينهض بأعباء الأمانة أو يختار لممارسة دور الخلافة : ( إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ) (۱). والمسؤولية علاقة ذات حدين : ولهذا فهي غير مخولة أن تحكم بهواها أو باجتهادها المنفصل عن توجيه الله سبحانه وتعالى : لأن هذا يتنافى مع طبيعة الاستخلاف، وبهذا تتميز خلافة الجماعة بمفهومها القرآني والإسلامي عن حكم الجماعة شيء ولو كان هذا الشيء مخالفاً لمصلحتها ولكرامتها عموماً، جزء من الجماعة وكرامته ما دام هذا الجزء قد تنازل عن مصلحته وكرامته . وعلى العكس من ذلك حكم الجماعة القائم على أساس الاستخلاف، بالظلم وتستسيغ السكوت عن الطغيان بأنها ظالمة لنفسها»، عن هذا الظلم ومطالبة برفضه بأي شكل من الأشكال ولو بالهجرة والانفصال إذا قال الله سبحانه وتعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرض قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوِيَهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ) (۱). الأرض وبإمكانه أن يفسد أيضاً، وأكبر الظن أن هذه الحقيقة هي التي أثارت في نفوس الملائكة المخاوف من مصير هذه الخلافة وإمكانية انحرافها عن الطريق السوي الى طريق الفساد وسفك الدماء : لأن صلاح المسيرة البشرية لما كان مرتبطاً بإرادة هذا الإنسان الخليفة ولم يكن مضموناً بقانون قاهر كما هي الحالة في كل مجالات الطبيعة - فمن المتوقع أن تجد إمكانية الإفساد والشر مجالاً لها في الممارسة البشرية على أشكالها المختلفة. ومن هنا قدموا أنفسهم كبديل عن الخليفة الجديد، فبدلاً عن الرعاية من خلال قانون طبيعي لا يتخلف كما ترعى حركات الكواكب ومسيرة كل ذرة في الكون - يتولى الله سبحانه وتعالى تربية هذا الخليفة وتعليمه لكي يصنع الإنسان قدره ومصيره، وجوده على ضوء هدى وكتاب منير . وأثبت للملائكة - من خلال المقارنة بينه وبينهم - أن هذا الكائن الحرّ الذي اجتباه للخلافة قابل للتعليم والتنمية الربانية، إن الملائكة لاحظوا خط الخلافة بصورة منفصلة عن الخط المكمل له بالضرورة، والآخر خط الشهادة الذي يجسده شهيد رباني يحمل الى الناس هدى الله ويعمل من أجل تحصينهم من الانحراف، مِنِّي هُدى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (۱). ما هو الهدف المرسوم الخلافة الإنسان على الأرض ؟ وفي أي اتجاه يجب أن تسير هذه الخلافة في ممارستها الدائبة ؟ ومتى تحقق هدفها وتستنفد غرضها ؟ إن الخلافة الربانية للجماعة البشرية وفقاً لركائزها المتقدمة تقضي بطبيعتها فصفات الله تعالى وأخلاقه - من : العدل والعلم والقدرة والرحمة بالمستضعفين والانتقام من الجبارين والجود الذي لا حد له - هي مؤشرات للسلوك في مجتمع الخلافة وأهداف للإنسان الخليفة، ولما كانت هذه القيم على المستوى الإلهي مطلقة ولا حد لها، إنسانياً في حركة مستمرة نحو المطلق وسير حثيث إلى الله . ولم يكن من الصدفة أن يوضع العدل أصلاً ثانياً من أصول الدين ويميز عن كما أشرنا في حلقة سابقة (۳) - وذلك لأن العدل في المسيرة وقيامها على أساس القسط هو الشرط الأساسي لنمو كل القيم الخيرة الأخرى، المناخ الضروري لتحرك تلك القيم وبروز الإمكانات الخيرة. فالخلافة إذن حركة دائبة نحو قيم الخير والعدل والقوة، لا توقف فيها : لأنها متجهة نحو المطلق، سوى الله سبحانه وتعالى - سوف يكون هدفاً محدوداً، الحركة ويوقف عملية النمو في خلافة الإنسان. وعلى الجماعة التي تتحمل مسؤولية الخلافة أن توفر لهذه الحركة الدائبة و تصوغ العلاقات الاجتماعية على أساس الركائز المتقدمة للخلافة الربانية