يرتبط هذا التعليق البسيط بالالتزامات التي يرتبها عقد الكراء المنصب على عقار بالنسبة للطرف المكتري واساسا بدفع الوجيبة الكرائية تطبيقا لمقتضيات الفصل663 من قانون الالتزامات والعقود (1). كما انه نظم بكيفية صريحة مسالة مكان دفع تلك الوجيبة، وخاصة بالنسبة للمكان الذي يجب ان تدفع فيه الوجيبة الكرائية بالنسبة للعقارات المكرية، لم يضع حدا للمشاكل التي يمكن ان تثار أمام القضاء بهذا الخصوص. انه يمس عن قرب مفهوم التماطل الذي قد يجعل ـ في حالة ثبوته ـ المكتري فاقدا للحق في البقاء بالعين المؤجرة، فالقاعدة العامة ان المكتري الذي يتقاعس عن ادء الوجيبة الكرائية في وقتها المحدد يعد متماطلا من الناحية القانونية، غير ان تطبيق هذه القاعدة على اطلاقها قد ينتج عنه أحيانا ظلم يمتد إلى المكتري يصعب، فان المشرع قد احاط المسالة ببعض التنظيم، وانما عمل على تطويره بكيفية غير منظمة، أولا : احكام التماطل في قانون الالتزامات والعقود وقد قسم المشرع الباب أعلاه إلى اربعة فروع يهمنا الأول منها الذي خصص لمطل المدين. وفيما يتعلق بهذا الموضوع الأخير بالذات، فقد نص المشرع في الفصل254 ق أ ع على ما يلي: " يكون المدين في حالة مطل اذا تاخر عن تنفيذ التزاماه كليا أو جزئيا من غير سبب" ونص في الفصل255 من نفس القانون على انه: " يصبح المدين في حالة مطل بمجرد حلول الاجل المقرر في السند المنشئ للالتزام. الا بعد ان يوجه إليه او إلى نائبه القانوني إنذار بوفاء الدين، 2. تصريحا بأنه اذا انقضى هذا الاجل، فان الدائن يكون حرا في ان يتخذ ما يراه مناسبا ازاء المدين. ويستفاد من كل ما سبق بيانه من احكام، ان المدين يصير متماطلا كلما تاخر عن تنفيذ الالتزام الذي يقع عليه والذي حل اجله كليا أو جزئيا من غير التمسك بسبب مشروع ومقبول (3). لا يعد المدين في حالة مطل الا بعد إنذاره بالكيفية المنصوص عليها ضمن مقتضيات الفصل 255 أعلاه. ومتى كان الالتزام عبارة عن مبلغ من النقود، وهذا المكان لا يخرج حاليا عن صندوق المحكمة الابتدائية (4). وانما اضاف إليها اخرى ضمن الأحكام المتواجدة في قانون الالتزامات والعقود نفسه والمخصصة لعقد كراء الاشياء باعتباره من ابرز العقود المسماة فهكذا، وبعدما قرر الفصل 664 من نفس القانون ان المكتري يلتزم قانونا بدفع الوجيبة الكرائية المتخلفة في ذمته في الاجل الذي يحدده العقد أو العرف المحلي أو عند نهاية الانتفاع بالعين المؤجرة. نص الفصل692 على انه : " للمكري فسخ الكراء مع حفظ حقه في التعويض ان اقتضى الامر: ثانيا : احكام التماطل في الأنظمة الخاصة وفي نفس الاتجاه، والملاحظ كذلك ان الفصل12 من ظهير25 دجنبر1980 لا يختلف في جوهره مطلقا عن الفصل11 من ظهير24 ماي1955 الا من حيث المجال الذي يحكم كلا منها (6). أ- هناك موقف قديم نسبيا يقضي بانه يحق للمكري إذا ما أراد ان يقاضي المكتري من اجل التماطل في اداء الوجيبة الكرائية ان يختار بين المسطرة التي يتضمنها قانون الالتزامات والعقود أو تلك التي تتضمنه النصوص الخاصة الموجودة اما بظهير 24 ماي1955 واما في ظهير25 دجنبر1980، ب- وهناك موقف حديث نسبيا يتمسك بقوة بالقاعدة الاصولية التي تقضي بان الحكم الخاص يقيد الحكم العام عند التعارض، ولعل من غرائب الامور في هذا الصدد ان تجتمع غرفتان للمجلس الأعلى ـ وهما الغرفة الإدارية والغرفة المدنية ـ لحل هذا الاشكال فيتمخض هذا الاجتماع عن قرار مبدئي يجنح إلى الموقف الثاني الذي يقضي بان النص الخاص يقيد النص العام، وبالتالي استبعاد تطبيق قانون الالتزامات والعقود بكيفية مطلقة بهذا الخصوص(9). ومنها ما يتمسك بقاعدة ان الخاص يقيد العام عند التعارض. يتمسك احيانا بقاعدة ان الكراء مطلوب لا محمول وخاصة متى اثارها المكتري كشرط أولي للبت في وجود التماطل من عدمه، اذ المسالة اصلا لا علاقة لها بالنظام العام. فما المقصود اذن بهذه القاعدة، وما هو سندها القانوني، ثالثا : قاعدة الكراء مطلوب لا محمول وسندها القانوني هذه القاعدة غير منصوص عليها بكيفية صريحة في القانون وانما قد استنتجها القضاء من مقتضيات الفصل666 من قانون الالتزامات والعقود والتي تقضي بما يلي : " يدفع الكراء بالنسبة إلى العقارات في المكان الذي توجد فيه العين المكتراة" وبالنسبة إلى المنقولات في مكان ابرام العقد، انما يجب ان تدفع حيث توجد العين المكتراة ـ وهو غالبا موطن المكتري ـ مع العلم بان هذه القاعدة وكما سبق بيانه، وبالتالي فيمكن دائما تقييدها عن طريق الاتفاق بين المكري والمكتري. وقد استنبط القضاء المغربي عموما والمجلس الأعلى على وجه الخصوص من مقتضيات الفصل666 أعلاه قاعدة عامة قريبة شيئا ما من محتوى ذلك الفصل، وهذه القاعدة هي ما يعبر عنها عادة بان الكراء يطلب من المكري ولا يحمل إليه، فالمكري هو المكلف دائما بالتوجه إلى حيث المكتري ومطالبته بالوجيبة الكرائية التي حل اجلها، ولا تثريب على المكتري ان هو لم يحملها إليه ولو حل اجلها، ما لم يلزمه عقد الكراء أو عقد لاحق اخر بذلك بكيفية صريحة. نذكر منها على سبيل المثال: جاء في قرار للمجلس الأعلى : عندما تصرح المحكمة بفسخ عقد الكراء وبالافراغ بعلة ان المكتري يعترف بعمارة ذمته ولم يدل ما يثبت انه كان يعرض الكراء على المكري فانها تكون قد خرقت هذه المقتضيات" (12). وجاء في قرار اخر لنفس المجلس: " يؤدى الكراء بالنسبة للعقارات في المكان الذي توجد به العين ما لم يوجد شرط يقضي بخلاف ذلك (الفصل666 من ظ أ ع) وعلى المكري ان يتقدم إلى المكتري بطلب أداء كرائه واذا امتنع وجه إليه إنذارا بذلك ليصبح في حالة مطل. فان اعتباره في حالة مطل لمجرد انه لم يؤد الكراء لعدة شهور يعد خرقا للقانون. " (13). انطلاقا من مقتضيات الفصل666 من قانون الالتزامات والعقود السالف ذكره، انما يكون قد قام بدوره الابداعي الرامي في بعض الحالات إلى سد الثغرات العالقة بالتشريع النافذ، فخلق القاعدة القانونية في مثل هذه الظروف يشكل اجتهادا قضائيا بكل ما في الكلمة من معنى، مكملا لعمل المشرع، وهو عمل إيجابي يندرج في اطار التعاون بين القضاء والسلطة المكلفة داخل الدولة بوضع التشريع(14). ان قاعدة الكراء مطلوب لا محمول التي ابتكرها القضاء المغربي تساير إلى حد بعيد المنطق القانوني الذي يقض بان النصوص والاتفاقات يجب ان تفسر لصالح الطرف المدين، وان عقد الكراء يجب ان يفسر لفائدة المكتري اذ من المفروض ـ علما ان هذا الفرض ليس صحيحا دائما ـ انه الطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية. (15) ويضاف إلى كل ذلك ان حماية المكتري من تسليط سيف الافراغ عليه قد تستدعيها أسباب اقتصادية أو اسباب اجتماعية أو أسباب يختلط فيها ما هو اجتماعي بما هو اقتصادي (16). ويبقى ان نشير في اخر هذه الفقرة إلى ان هذه القاعدة ـ ورغم بساطتها، فهي تطرح للمكري صعوبة اثبات الواقعة التي تترجمها أمام المحاكم. رابعا : الإنذار بالوفاء يقوم مقام طلب الكراء من جانب المكري الأصل ان سعي المكري حيث توجد العين المكتراة ثم مطالبة المكتري بحقه المتمثل في الحصول على الوجيبة الكرائية يمثل في ذاته واقعة مادية يجب على الملتزم بقاعدة ان الكراء يطلب ولا يحمل ـ وهو المكري ـ بان يثبتها أمام القضاء (18) والوقائع المادية تثبت بكافة وسائل الاثبات بما في ذلك شهادة الشهود والكتابة واليمين الحاسمة. وهذا ما يستفاد من قرار المجلس الأعلى الذي يقرر : فان اعتباره في حالة مطل لمجرد انه لم يؤد الكراء لعدة شهور يعد خرقا للقانون. (19) واقتناعا بصعوبة الاثبات في هذا المجال، وعمليا، ذلك ان سعي المكري إلى حيث يتواجد المكتري لكي يطالب بالوجيبة الكرائية يتساوى والبعث بانذار في شكل رسالة أو برقية تعبر عن نفس الموقف ـ أي المطالبة بالكراء ـ غاية الامر ان الاثبات يسهل بوجود الإنذار وبالاداء. (23) ومما تجب ملاحظته أخيرا ان القضاء المغربي لم يكن دائما وفيا للمبادئ أعلاه لا في شقها المتعلق بان الكراء مطلوب لا محمول ولا في شقها المتعلق بالانذار بالأداء. على انه، لا بد من الإشارة إلى ان نقطة جوهرية مفادها انه متى طالب المكري بالوجيبة الكرائية المتخلفة في ذمة المكتري وجب على محكمة الموضوع ان تقصر حكمها على هذه النقطة بالذات لا ان تتعدها إلى الحكم بالافراغ وإلا خرقت المبدأ العام الذي يقرر انه لا يمكن للقاضي ان يحكم باكثر مما طلب منه. ومن ضمن القرارات الصادرة عن المجلس الأعلى بهذا الصدد نذكر: " . " (24) مسالة مكان وزمان اداء الكراء تخص المكري والمكتري، ولا تمس النظام العام لا من قريب ولا من بعيد. وفيما يخص قاعدة الكراء مطلوب لا محمول، وفي هذا الصدد، جاء في القرار للمجلس الأعلى : " . حيث ان اعتبار حالة المطل المؤدية إلى فسخ عقد الكراء وإفراغ المكتري مسالة موضوعية يرجع تقديرها لسلطة محكمة الموضوع ولا رقابة عليها في ذلك من المجلس الاعلى طالما انها قد أبانت عن السبب القانوني الذي اعتمدته في اثبات حصولها وهو التوقف عن اداء الكراء بمكتب المكرية طبقا لما ورد عليه اتفاق الطرفين في عقد الكراء الرابط بينهما سيما وان الإنذار الذي وجهه الطاعن نفسه للمكرية لا يتضمن ما يفيد ان هذه الأخيرة تمتنع من قبض الكراء في مكتبها وانما يعبر فيه عن استعداده لاداء الكراء عندما يطلب منه في مسكنه وهو ما خالف به الاتفاق المبرم بين الطرفين وبذلك فان استنتاج القرار المطعون فيه وجود المطل بسبب عدم اداء مقابل الكراء الذي حل اجله في المكان المعين من قبل الطرفين المؤدي إلى فسخ عقد الكراء وافراغ المحل المكتري ينسجم مع ما تضمنته مقتضيات الفصلين 666 و692 من قانون الالتزامات والعقود. " (25) على انه، إذا كنا نتفق مع هذا القرار في ان قاعدة الكراء مطلوب لا محمول لا تتصل أبدا بالنظام العام، لان الامر يتعلق بتكييف معين رتب عليه المشرع آثارا قانونية محددة، خامسا : تنكر المجلس الأعلى لقاعدة الكراء مطلوب لا محمول. فان احكام القضاء المغربي عموما، وقرارات المجلس الأعلى على وجه الخصوص، غير منضبطة في هذا الصدد، فالراجع " في اجتهادات المجلس الأعلى هو ان المكري ملزم باثبات تماطل المكتري وان تخلف هذا الأخير عن الوفاء بالاجرة لا وبالتالي معرضا للنقض، وان الفصل692 من نفس القانون يعطي الحق للمكري في طلب فسخ الكراء اذا لم يؤد عند حلول اجل ادائه من دون حاجة لتوجيه أي إنذار، وان مطل الدائن لا يكفي لابراء ذمة الدائن، فاذا كان محل الالتزام مبلغا من النقود، على نزاع يتصل باداء الوجيبة الكرائية، ومن ذلك مثلا : وحيث ان الطاعنة في هذه الحالة تعتبر متماطلة عن الاداء بمجرد حلول الاجل طبقا للفصل 255 من قانون الالتزامات والعقود، وكان عليها ان تقوم بالايداع الفعلي طبقا للفصل 280 من نفس القانون لتتحاشى المطل في الاداء من دون حاجة إلى توجيه إنذار من طرف المكترية لعدم لزومه قانونا. "(29) وفي نفس الاتجاه، جاء في قرار اخر : " . فان التماطل يثبت بمجرد حلول الاجل دون تنفيذ الالتزام كليا أو جزئيا للفصلين254 و255 من ق ا ع . " (30) " ويبدو ان المجلس الأعلى يعتمد السير في هذا الاتجاه وانه يسعى فعلا لان تتكرس القاعدة بان الكراء محمول لا مطلوب عن إرادة ووعي تامين. فقد تمسك احد الطاعنين في العريضة المرفوعة إلى المجلس الأعلى لطلب نقض حكم ضده بالافراغ بناء على التماطل، بان محكمة الاستئناف لم تساير قضاء المجلس الأعلى مع ان اجتهاد هذا الأخير يعتبر بمثابة قاعدة قانونية اصلية ومن ذلك اجتهاده المتكرر بان المماطلة في الكراء لا تثبت الا بالانذار بالاداء وان الكراء مطلوب لا محمول. وبالتالي تكون الوسيلة غير مجدية. " (31). والمعبر عنه صراحة في تعليق الأستاذ بلحساني لا يمكن الا ان يندرج في محاولة التنكر لبعض مواقف المجلس الأعلى السابقة والمستقرة والتي لا تخدم وظيفة المجلس الأعلى في شيء، (32) سادسا : العودة مرة اخرى إلى التمسك بقاعدة ان الكراء مطلوب لا محمول في قضية عرضت على المحكمة الابتدائية بالخميسات تمسكت الجهة المدعية بانه سبق لها ان استصدرت عدة احكام قضائية تقضي على المكتري باداء ما تخلف في ذمته من واجبات الكراء وانها تطلب للسبب ذاته الحكم عليه بالافراغ. استجابت المحكمة لطلب الافراغ، وان الادلاء باحكام قضائية سابقة بالأداء لا تبرر الفسخ الكرائي. وقد اقتنع المجلس الأعلى بما جاء في هذه الوسيلة فقرر ما يلي: وان المحكمة باعتمادها فقط على احكام قضائية سابقة لاثبات التماطل تكون قد خالفت القاعدة القانونية المشار إليها أعلاه وعرضت قرارها للنقض. خاتمة انما ينم عن ظاهرة صحية جوهرها الفكر القانوني لارساء نظام قانوني يكون اكثر انسجاما وتلاؤما مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي فرض سن قواعد قانونية معينة تكرس في الواقع نظريات واتجاهات فلسفية لتنظيم التعامل داخل المجتمع وتضمن حدا ادنى من التوازن بين مصالح الافراد من خلال ما يبرمونه من عقود وتضع اطارا تتقيد ضمنه حرية التعاقد حسبما تفرضه ضرورة حماية النظام العام للجماعة والمحافظة عليه. واذا كان المشرع عند وضع القاعدة القانونية لا يمكنه ان يتصور جميع الحالات والفرضيات التي يمكن ان تخضع للقاعدة وللحل الذي تقرره مما يحتم اضفاء قدر معين من المرونة عليها ـ يتقلص " (34). نرى انفسنا ملزمين بتسجيل بعض الملاحظات على هامشه: 1. ان الرأي أعلاه يظل صحيحا عندما نطبقه في المجال القضائي على وجه العموم غير انه يصبح رايا غير مقبول على اطلاقه على مستوى نظام الطعن بالنقض الذي يستقل ببعض الخصوصيات التابعة من وظيفته. وهو من هذه الناحية يتنافى مع ظاهرة التناقض والتضارب في الاجتهادات القضائية بكيفية تشوش على الدارس والممارس والمتقاضي بخصوص المسالة التي تتعدد بشانها مواقف المجلس الأعلى.