أمام هؤلاء الأنتروبولوجيين الذي حطوا الرحال في عوالم بعيدة، فالترحال والتجوال والسير الذاتية والتدوين الأدبي مناهج حقيقية في التكوين الأصيل للأنتربولوجيا التي تعد نتاجا طبيعيا لتطور الرحلة والأدب والتشويق عبر التاريخ من رحلات ابن بطوطة حتى السندباد البحري. فالأنتربولوجيون أبطال حقيقيون جازفوا بحياتهم كلها في استكشاف الحقيقية،  فموضوعنا يتمحور في استجواب فرع جديد وليد من الأنتروبولجيا يتمثل في الأنتربولوجيا التربوية التي تبحث في الحقيقة الإنسانية الأعمق للعملية التربوية في مختلف الأنظمة الاجتماعية القديمة والحديثة. وكما هي الأنتربولوجيا بأي نوع تجلت وبأي صيغة هلّت فإن الأنتربولوجيا التربوية تأخذ بشغاف القلب والعقل معا وتضع القارئ في صورة التجليات الكبرى للحياة التربوية عند الأمم والشعوب،  وكأنك في مشهد خلاق خلاب تتفاعل فيه كل اللحظات والجزئيات والمواقف والمعاني والدلالات التي تشترك جميعا في بناء المشهد التربوي في حركته ونقلته وتكونه وانبساطه وانعطافة فتقف مذهولا مسحورا أمام هذا الفعل الإنساني الذي يجمع بأطراف الواقع والعقل والرمز والوجدان في نبضة واحدة. وتأتيك اللحظات التالية للمشهد حيث يتم استخدام الرموز والدلالات والمعانى والكلمات والإشارات والإيماءات جميعا في عملية توصيف الفعل التربوي واستخراج الحقائق الكامن فيها جلية واضحة تخاطب العقل والوجدان وتمنحهما القدرة على الفهم والتمثل. وما يؤسفنا أن الحقيقة التربوية في حلتها الأنتروبولوجية ما زالت بعيدة المنال في ثقافتنا التربوية وفي مجال حياتنا الأكاديمية التي تكاد تخلو إلا من إشارات هنا وهناك عن بعض الدراسات الأنتربولوجية التربوية النادرة التي تقع في بعض الكتب التربوية على نحو مختصر. وإنني لأجزم بأننا في أمس الحاجة اليوم إلى بناء هذه الأنتربولوجيا التربوية وتأصيل حضورها في ثقافتنا ووعينا وحياتنا الأكاديمة لما تنطوي عليه من أهمية وخطورة وحساسية وقدرة منهجية في استلهام الحقيقة واستكشاف المناحي الأساسية لعالم تربوي مجهول برمته وكليته. ويمكننا أن نؤكد بخجل واستحياء، بأن الساحة التربوية والفكرية العربية تكاد تخلو أو تخلو تماما من الدراسات والترجمات التي تتعلق بهذا المجال العلمي الذي يعد بحق من أكثر المجالات العلمية أهمية في المجال التربوي على وجه التحديد. ولا أستطيع أن أخفي بأنني قضيت ليال بكاملها أتصفح مواقع الأنترنيت والمكتبات الإلكترونية والجامعية والمكتبات العامة بحثا عن مصادر ووثائق ومعلومات تتعلق بالأنتروبولوجيا التربوية باللغة العربية، ومع أنني عثرت على وثائق وكتب عامة عبر الأنترنيت وفي المكتبات حول الأنتربولوجية بمختلف تجلياتها، وصدمت أيضا ومن جديد لأن ما قدموه لم يتطرق أبدا إلى الأنتربولوجيا التربوية أو أثنولوجيا التربية، ومع أنني لست أنتربولوجيا ضليعا في هذا الميدان ضلوع المتخصصين، وبوصفي باحثا في مجال علم الاجتماع التربوي، وهو أقرب العلوم إلى الأنتربولوجيا التربوية، وإذا كنت قد أخذت على نفسي تنكب مشقة العمل في هذا المجال، وقد تكون هذه المقالة باكورة أعمال واعدة في المستقبل لهذا المجال الحيّ والنشط من الأنتربولوجيا التربوية. وتأسيسا على ماتقدم تأتي هذه المقالة تعبيرا عن هذه الرغبة في أن أضع أمام القارئ التربوي صورة هذا العلم بكل ما ينضح فيه من عطاء فكري وكل ما يستجمعه من طاقة علمية قد تومض في طريقة المعرفة العلمية والتربوية في ثقافتنا التربوية العريبة. ومن أجل منهجة هذه المقالة ووضعها في سياق علمي وإذا كانت الثقافة كمكون وجودي للإنسان تشكل الموضوع المركزي الأول للأنتربولوجيا الثقافية، وأخيرا تأتي المؤسسات الاجتماعية التي ينتسب إليها الأفراد في المجتمع في المرتبة الثالثة، حيث تشكل هذه المؤسسات – بوصفها تجارب إنسانية – موضوعا مركزيا من موضوعات الأنتروبولوجيا، وقد تخصص في دراستها فرع انتروبولوجي اتخذ تسمية الأنتربولوجيا الاجتماعيةAnthropologie sociale، ويبدو أن هذه الأنتربولوجيا تغطي الموضوعات التي يتناولها علم الاجتماع حيث تتقاطع الأنتربولوجيا الاجتماعية وعلم الاجتماع في محاور متعددة في المستوى المنهجي وفي مستوى القضايا التي تشكل موضوعا مشتركا للعلمين الناشئين. فالمدرسة والمؤسسات التربوية على تنوعها تشكل حقلا مشتركا لعلم الاجتماع التربوي والأنتربولوجيا التربوية. وكلاهما يحاول أن يقدم إجابات عن تساؤلات مشتركة مثل: ما هي الوظائف الاجتماعية والثقافية والسياسية للمؤسسة المدرسية في المجتمع؟ ما هي العناصر الأساسية لعملية التثقيف والتربية وما هي أواليات التنشئة الاجتماعية؟ كيف تمارس المدرسة وظيفتها التربوية في دائرة الوسط الاجتماعي وما هي طبيعة العلاقات التي تشدها إلى المؤسسات الاجتماعية القائمة في المجتمع؟ وكيف يمارس الصف المدرسي (الفصل المدرسي) وظيفته بوصفه وحدة ثقافية مصغرة عن المجتمع الذي يحتضن المدرسة؟ هذه بعض الأسئلة التي تشكل مجالا علميا مشتركا بين الفرعين والعلمين.