كنتُ أنوي لهذه التدوينة أن تكونَ محض مراجعة عن فلم عظيم شاهدتهُ خلال الأسبوع الماضي، وهو فلم The Big Short من إنتاج سنة 2015، لكونه أقرب إلى إنتاج وثائقي منهُ إلى مجرّد فلم للسينما، فأنا أجدُ نفسي مجبراً على أن أُسهِبَ في هذه التدوينة بالحديث عن علم الاقتصاد عوضاً عن الفلم نفسه، يحثَ أن الموضوع الرئيسيَّ للفلم يتمحورُ حول الأزمة الاقتصادية التي ألَّمت بالولايات المتحدة خصوصاً والعالم بأسره قبل عشر سنوات، والتي أدَّت ببنك "الإخوة ليمان"، للإعلان عن إفلاسه وتصفية كلّ أملاكه. كانت الأزمة المالية على وشك التحوّل إلى كارثة وانهيار شاملٍ لاقتصاد الولايات المتحدة، لولا اتخاذ الحكومة إجراءات فوريَّة وصارمة. قصة وقوع هذه الأزمة وخروجِ العالم منها، عندما تفهمُها عن قرب، مبهرة بكلّ معنى الكلمة، وتحملُ تفسيراتٍ كثيرة للأسس السياسية والاقتصادية التي يقومُ عليها العالم الآن.البنوك: مُحرّك الاقتصاد العالميلعلَّك تساءلتَ في يومٍ من الأيام (أو كان يجدرُ بك التساؤل، إذا لم تُفكّر بالأمر) عن كيف تربحُ البنوك أمولها؟ فالبنوك، موجودةٌ لتُقدّم خدمات وتتقاضَى عليها دخلاً. بل إنّ البنوك هي - على الأرحج - أغنى الشركات وأكثرها ربحاً بالعالم، فهي تتاجرُ بأثمن سلعة نعرفُها: وهي المال نفسه. فكيفَ ذلك؟ وهي الاستثمار. وهي المال، ويمكنُ استخدام المال بطرقٍ كثيرة في استدرار المزيد والمزيد من الأموال. تستثمرُ البنوك أموالها بطرقٍ كثيرة لتحصيل الربح، أو بيع القروض الربوية، وهي مصطلحاتٌ قد يكونُ بعضها مزعجاً لك الآن، لكنّنا سنعملُ على تفسيرها كلّها لأهميتها في موضوعنا. تقومُ معظم هذه الاستثمارات على فكرة أن البنكَ يستفيدُ من امتلاكه لرأس مال كبير (كثير من الكاش أو السيولة)، لـ"يؤجّرها" لمن هو بحاجة إلى المال، ليحصلَ منها - في المقابل - على فوائد. فلو كنتَ - على سبيل المثال - ترغبُ بشراء منزل لك، لكن بدلاً من ذلك، يستطيع البنك أن يعرضَ عليك قرضاً ربوياً، فيشتري البنك منزلك بدلاً منك،لكن هذه الطريقة في الإقراض خطيرة. فلمَ ذلك؟ عندما يمنحُ البنك قرضاً ربوياً لك، فهذا يعني أنّه عطّل جزءاً من السيولة الموجودة عنده، لأنه لن يستعيدَ منك قيمة القرض حتى مرور فترة قد تصلُ إلى عشر سنوات. إلا أنَّ الأسوأ من ذلك هو أن المال الذي أقرضهُ البنك لك هو بالحقيقة ليس ماله، بل هو جزءٌ من ودائع عملاء آخرين - مثلك - أودعوا أموالهم في هذا البنك. هذه الحقيقة تعني أن البنك لا يحتفظُ بالمال المودع بخزينته لتستلمه متى أردت، وهنا تبرزُ نقطة ضعف البنوك. في سيناريو خياليّ مُبسّط، أن بنكاً قد افتتحَ في الأسبوع الماضي في مدينتك. ذهبتَ أنت وصديقك إلى البنك وأودع كلّ منكما عشرة آلاف دولار.000 دولار في خزينته؟ في الواقع، فتكونُ قد ذهبت للاستثمارات. ويطالبونَ بسحبِ أموالهم كلّها، ولذلك فإنه يستطيعُ دائماً أخذَ جزء من مالك والمتاجرة بهِ طالما أنكَ لست بحاجة إليه.000 دولار من حسابك، فلن تكونَ تلك بمشكلة حقيقة للبنك، لأنه سيأتي غيركَ ليودع ما يعادلها أو أكثر في اليوم التالي أو الذي يليه. إلا في حالة واحدة فحسب، فوقتها يقعُ الذّعر. في أوقاتِ الأزمات، هو تحديداً ما يصنعُ الأزمة التي يقعونَ بها. فلو أعلنت وكالات الأخبار عن حصول أزمة اقتصادية، فلن يحدثَ شيء لأحد. لكن ما يحصلُ هو أن كلّ شخصٍ يصابُ بالهلع من أن جميع الأشخاص الآخرين سوفَ يذهبُون إلى البنك ويسحبون ودائعهم منه، ولذلك فيُسارعُ هو بالذهاب لسحب أمواله قبلهم.هذه هي الحالة الوحيدة التي يمكنُ أن يحاولَ فيها جميع الناس استعادة ودائعهم من البنك في ساعة واحدة ووقتٍ واحد، في الحقيقة، لا يملكُ من السيولة (المال الورقي) ما يكفِي لتسديد ودائع كلّ عملائه، لأنه كان منشغلاً بإقراض ودائعهم لغيرهم من العملاء. عندما يعجزُ البنك عن تسديد الودائع، يتحوَّل فجأة من مدين إلى دائن، ولا يعودُ أمامه خيارٌ سوى إعلان إفلاسه وتصفية أملاكه. في أوقات الأزمات الاقتصادية، لا بُدّ أن تتعرَّض الكثيرُ من البنوك الصغيرة للإفلاس بهذه الطريقة. بين عامي 1929-1932، أعلنَت حوالي 20% من البنوك الأمريكية عن إفلاسها.الاقتصاد العالميّ والغرقُ في أزمة عام 2008على مرّ المائة عام الأخيرة، منذ تطوّر النظام الاقتصادي الغربي وانتشاره في العالم، بحثت عن البنوك عن الطرق المثلى لاستدرار أكبر كمّ ممكنٍ من الربح من خلال متاجرته بالمال، ومنذ منتصف القرن العشرين، وهو قطاع العقار. يعتمدُ قطاع العقار على كون امتلاك منزل طموحاً أساسياً في حياة معظم الناس بعصرنا الحاضر، وبالتالي فلو كانت البنوك قادرةً على تمهيد الطريق أمام هؤلاء الناس المساكين لشراء منازل خاصَّة بهم، وهذا ما فعلته بالتحديد.ما يُميّز التعاملَ في قطاع العقار بأنه مضمون وآمن جداً بالنسبة للبنك. الأمرُ بسيط جداً: فلو كنتَ تريد شراء منزل جديد، كلّ ما عليكَ هو اقتراضُ مبلغٍ هائل من المال من أحد البنوك، ومن ثم لن يكونَ عليك سوى اقتطاع قسم من مرتّبك الشهري لعدة سنوات (أو سنوات كثيرة جداً، لو لم يكُن دخلك مرتفعاً) لتسديدِ ما اقترضته بعدَ أن تضاف عليه بعضُ الفوائد. وبما أن لدى البنكِ جميع بياناتك القانونية، فإن التحايل أو التهرّب من الدفع ليس خياراً ممكناً بالنسبة لك، إلا إذا ما كنتَ مستعدّاً لتوظيب أغراضك والفرار إلى المكسيك (وهو ما قد لا يُفضّل معظم الناس عمله)، مع نهاية القرن العشرين، هو أنَ أسعار العقارات والبيوت في الولايات المتحدة ارتفعت بشكل حادّ جداً، يفترض بالبنوك، قبل الموافقة على منحِ قرضٍ لشخص يرغبُ بشراء منزل، لو منحَ 1,000 قرضٍ خلال عام مثلاً، أن ثمة خمسة أو عشر أشخاصٍ سيختلّفون عن دفع قروضهم، وفي هذه الحالة قد يدخلون السجن، وربّما يحاولون التملص بالهربِ إلى ولاية أو دولة أخرى)، ولكن ذلك لن تكونَ له أهمية كبيرة لأن أرباحَ البنكِ من العملاء الآخرين قادرةٌ على تعويضه عن خسارته، وبالتالي سيستمرّ بالعمل بطريقة طبيعية. في الحقيقة، ومع اقتراب عام 2007، بدأت النسبة تدريجياً بالاقتراب من 10% في جميع أنحاء البلاد، ومع أن هذه النسبة قد تبدو صغيرة، لكنّها كافية في الواقع لتحويلِ تجارة العقار بأكملها من ربح إلى خسارة فادحة بالنسبة للبنوك. في شهر آذار/مارس عام 2007، تقدَّمت شركة New Century Financial، وهي واحدةٌ من أكبر مؤسسات الإقراض العقارية في الولايات المتحدة آنذاك، بشكوى لوزارة العَدْل الأمريكية ضدّ 84% من عملائها بتهمة التأخر عن الدفع، لكن لم يكد يمضِ شهر واحد على هذا الإجراء اليائس حتى اضطرَّت المؤسسة للإعلان عن إفلاسها في 2 نيسان/أبريل، بعدَ تراكم ديون عليها بقيمة تتجاوزُ 100 مليون دولار أمريكي.تدور أحداثُ الفلم، المقتبس عن واحد من أكثر كتب النيويورك تايمز مبيعاً (The Big Short)، حولَ مجموعة من روَّاد الأعمال وموظّفي البنوك الذين تنبّؤوا بالأزمة الاقتصادية العالمية قبل وقوعها بعامَيْن تقريباً. وما يُركّز الفلم عليه،في عام 2005، بناءً عليها، أن قطاع العقار الأمريكي سينهارُ خلال سنتين على الأكثر. كان مايكل مديراً لمحفظة استثمارية ضخمة في الولايات المتحدة، والمقصود هنا بـ"المحفظة الاستثمارية" هو صندوق استثماري خاصّ، حيثُ يستقبلُ مايكل كميات هائلة من المال (مئات ملايين الدولارات) من الأثرياء الراغبين بزيادة ثرواتهم، ومن ثمَّ يستثمرُ أموالهم في سوق المال بشراء السندات أو الأسهم وما سواها، ولكن آلية العملِ هذه خطرة بعضَ الشيء، لأنها تعني أن المال الذي يستثمرُه مايكل بوري في مشاريعه ليسَ ملكاً له، وبالتالي فإنَّه مجبرٌ على الأخذ بآراء أصحاب المال عندما يقدمُ على استثمارٍ جديد للتأكّد من موافقتهم على كيفية استخدام أموالهم.مايكل بوري في مكتب عمله الحقيقي، التي أقدمَ عليها مايكل في سنة 2005 كانت دونَ أيّ مشورة من مستثمريه. وهي Goldman Sachs، ولتبسيط الأمور، فإن ما فعله مايكل كان ضرباً من المقامَرَة: فقد أخبر المؤسسة المالية بأنَّه يرغبُ بالمراهنة بمبلغِ 100 مليون دولار أمريكي على أنّ السندات العقارية ستنخفضُ قيمتها، فلو حافظَت سندات العقار على قيمتها الأصلية لن يستعيدَ مايكل قرشاً من أمواله، وأما لو ارتفعت قيمتها فسيكون مديناً بعشرات ملايين الدولارات لـGoldman Sachs، ولكن إذا ما انخفضت قيمة العقار فقد يُحقّق ربحاً هائلاً، ربّما يصلُ إلى أربعة أو خمسة أضعافَ المبلغ الذي راهنَ به.بالنسبة لمؤسسة Goldman Sachs، كانت هذه الصفقة عبارةً عن مالٍ على طبقٍ من ذهب، فقد كانت المؤسسة (مثلها مثلُ معظم خبراء الاقتصاد في ذلك الحين) واثقةً تماماً من قوّة وثباتِ السوق العقارية، وبالتالي فلم يكُن هناك أيّ سببٍ للقلق من انخفاض قيمة السندات، ولا سببَ - بالتالي - لأن يخسروا أي مالٍ من هذه المراهنة. من يمكنه أن يرفضَ 100 مليون دولار مجاناً؟ لم يكتفِ مايكل بهذه الخطوة الجنونية فحسب، بل أخذ يذهبُ إلى بنوك ومؤسسات عملاقة أخرى ليراهنَ عندها بمبالغَ مماثلة على انهيار السوق العقارية. ولم يختلف رأيّ المستثمرين الذين يتعاملونَ مع مايكل بوري بأيّ درجة عن رأي المؤسسات المالية التي راهنَها، ممَّا أثار حنقهم الشديد. رُفِعَت عليه الكثير من الدعاوى القضائية، وانسحبَ من محفظته الكثير من المستثمرين، كان ستيف آيسمان، وهو مدير مالي لشركة باسم Front Point، يمرّ بيوم عمل عادي في مكتبه تلقّى اتصالاً خاطئاً من موظف في البنك الألماني (Deutsche Bank) يُدعَى غريغ ليبمان، والذي كان يحاولُ - في ذلك الحين - الوصول إلى مسؤولين في بنوك ومؤسسات استثمارية كُبرَى ليعرضَ عليهم صفقة حياتهم: فقد كان غريغ يدركُ أن السوق العقارية على وشك الانهيار، وأن على جميع المستثمرين الأذكياء البدء بالمراهنة على انهيارها، لكنّه واجه مشكلاتٍ بإقناع أشخاصٍ غيره بهذا الأمر. رغم أنَّ المكالمة الهاتفية وصلت ستيف آيسمان بالخطأ، إلا أنّه - ما إن سَمِعَ بالفكرة - حتى أبدا على الفور اهتماماً شديداً. وظَّف ستيف خبرائه الماليين والرياضيين لدراسة السوق المالية في أمريكا، عندها، وافقَ ستيف على شراء مقايضات ائتمانية من غريغ ليبمان بقيمة 100 مليون دولار.بعد انتهاء الأزمة المالية العالمية لعام 2008، ربحَ غريغ ليبمان، وهو موظف البنك الألماني الذي باعَ المقايضات الائتمانية لستيف آيسمان وشركاتٍ أخرى، مبلغاً يعادل 47 مليون دولار أمريكي، لا زالت تعملُ بنجاح. حصَّل غريغ هذا المبلغ الهائلَ بفضلِ بُعْد بصيرته وانتهازه لانهيار السوق العقارية الأمريكية. وهو صاحبُ المحفظة الاستثمارية،34% من المبلغ الذي راهنَ به، وبالتالي حقّق مكسباً شخصياً يعادل نحو مائة مليون دولار أمريكي، بينما عادَ لمسثتمريه - أو الذين وافقُوا منهم على البقاء معهُ حتى النهاية - بأكثر من 700 مليون دولار.انعكاس الأزمة على العالمولكن هذه النهايات السعيدة التي حظيَ بها بعضُ الحاذقين في عالم المال، لم تكُن سوى الحاصل السّعيد الضئيل من الأزمة، الذي ذهبَ لجيوب الانتهازيّين والمستثمرين الأثرياء. وأما عموم الشعب الأمريكي، بل وشعوب العديد من الدول الأخرى، فقد كانت آثار الكارثة الاقتصادية عليهم مختلفة تماماً. عن إفلاسها علنياً، فقد دخلت هذه المؤسسات إمّا تحتَ المادة السابعة أو الحادية عشرة من قانون الإفلاس الأمريكي، والتي تنصّ على تصفية جميع أملاك المؤسسة المفلسة وتسييلها لتسديد ما يمكنُ من ديونها. وهذا يعني أن جميعَ الأشخاص الذين اشتروا منازلَ بقروضٍ من البنوك المفلسة، لأن ملكية المنزل لا زالت للبنك،بالنسبة لنا، فقد لا نستطيعُ تذكّر فترة الزمة العالمية - بشكلٍ خاص - على أنها فترة صعبة اقتصادياً، وذلك بسبب التأثير المحدود للأزمة على منطقتنا. فبحسب تقرير صندوق النقد الدولي لشهر فبراير عام 2009، كان العالم العربيّ - في الواقع - من أقلّ مناطق العالم تأثراً بالأزمة الاقتصادية، ويعود ذلك لمصادر دخل المنطقة البديلة المُتعدّدة من خلال "الحوالات والاستثمارات الأجنبية والمساعدات الخارجية"، إلا أنَّ المنطقة العربية تأثّرت على المدى الطويل بالأزمة نظراً لانخفاض أسعار النفط، وهو أحد أهمّ مصادر الدخل للدول العربية الغنيَّة،النتيجةخلال فترة الأزمة المالية العالمية التي امتدَّت لعامَيْن تقريباً، خسرت بنوك الولايات المتحدة وأوروبا، إمَّا بسبب الإفلاس أو الصفقات الفاشلة التي أبرمتها إبان انهيار السوق العقارية، مبلغاً يتجاوز ترليون دولار أمريكي (بعبارة أخرى، خلال نفس الفترة،1%، وهي أعلى نسبة وصلتها خلال أكثر من ربع قرن. لم يكُن هذا التأثير على الدول الغنية فقط، بل قد عانت الكثير من الدول الفقيرة أصلاً من آثار الأزمة بشكلٍ مخيف. فعلى سبيل المثال، تقلّص مُعدّل نمو اقتصاد دولة كمبوديا الآسيوية من 10% إلى 0% تقريباً بحلول سنة 2009، بينما خسرت دولة كينيا الأفريقية نصفَ سرعة نموّها الاقتصادي.بدأت نهاية الأزمة الاقتصادية عندما قرَّرت الحكومة الأمريكية، بخطوة ذكيّة جداً لتفادي كارثة اقتصادية، منحَ ديونٍ/كفالاتٍ عملاقة لبنوكها الكبرى لإنقاذ هذه البنوك من انهيارها الوشيك. أقرَّت الحكومة الأمريكية ما يعرفُ بالقانون الطارئ لإرساء الاقتصاد لعام 2008 (Emergency Economic Stabilization Act)، حيث سمحت لخزينة الدولة بإنفاق مبلغٍ مقداره 700 بليون دولار في تمويل البنوك ودعمها بالنَّقد لحمايتها من الانهيار، وبهذا نجا العالم من كارثة وشيكة، إلا أنَّ معظم البنوك والمؤسسات المالية الجشعة - على الجانب السيّء - خرجت من الأزمة دون ضررٍ يذكر، وكانت قادرةً خلال عامَيْن على متابعة عملها بشكلٍ طبيعيّ تماماً ودون أن تدفع أيَّ ثمنٍ لما ارتكتبه من مخالفات وتماد،في بداية سنة 2010، واستقرَّت السوق الماليّة الآن"،