وليكن هذا مدخلنا إلى شكسبير! فمن ذا الذي يستطيع أن يقطع بأن هذه «النغمة» جادة أو هازلة؟ حقيقية أو زائفة؟ عرَضية أي عارضة أو مقصودة؟ وهل رنة السخرية في كلام الشخصية — إذا تأكدنا منها — موجهة إلى الشخصيات الأخرى، أم إلى القارئ مباشرة؟ ومعنى السؤال الأخير هو: هل يمكن لنا (أي هل من المقبول فنيًّا) اقتطاع أبيات أو فقرات من المسرحية باعتبارها شعرًا غنائيًّا، وقد يسمع المشاهد صوته واضحًا ویدرکه القارئ دون عناء، خصوصًا عندما ينتقل من سياق الحدث إلى التعليق على حال الإنسان بصفة عامة، أو على أشياء بعينها في مجتمعه يعرفها هو وجمهوره خير المعرفة، وهذه جميعًا من العوامل التي تؤثر في تحديد «النغمة» ومن ثم في الترجمة والأسلوب المختار لها. والنغمات المتفاوتة! ولقد رأيت أن التزام النظم وحده لن يحل المشكلة، والعامية في بعض الأحيان، فالبطل هنا «روميو» ليس في الحقيقة مثلًا أعلى للحب «أو للحبيب» الرومانسي، وجولييت فتاة في الرابعة عشرة — سن الزواج في الأيام الخوالي — تركَبُ رأسها وتندفع بطيش المراهقة إلى مغامرة غير محسوبة العواقب فتنتهي نهاية مفجعة! والجو الذي تقع فيه الأحداث هو جو البحر المتوسط بحرارته، والتهاب عواطفه! وشيكسبير يُصر منذ البداية على أن يعزف لنا «أنغامًا» مرحة في حوار فکِهٍ بالنثر يعتمد على التوريات، وخصوصًا ما يمس منها العلاقة بين الرجل والمرأة، وأنها قد أقسمت ألا تتزوج وأن تظل عذراء إلى الأبد! وهذا «الموقف المستحيل» يجعل كلَّ ما يقال بشأن الحب ورب الغرام کیوبید — خصوصًا بالقياس إلى غلام أمَرد مثل روميو وأصدقائه المراهقين — كلامًا ذا نغمات نصف جادة على أحسن تقدير، والفصل الأول يمثل لنا هذه النغمات التي تتراوح بين المعقول واللامعقول، هو الآخر بين الأسرتين اللتين توارثتا کراهية عبثية لا معقولة، – Good heart, – At thy good heart’s oppression! Dost add more grief to too much of mine own! – بس ده ظلم إله الحب! «ما أنت عارفه!» أرجوك … أنا عندي كفايتي ومش عايزك تحملني زيادة! هو الحب إيه يعني! دخان من الآهات والزفرات! It is improper that her excess of beauty (fair) and wisdom, G. B. وترجمة هذه الفكرة المعقدة هي: ويأسي يدحرجني في الجحيم لأني حُرِمتُ رضاب الوصال! فهو لم يفقد كيانه بل هو موجود «هنا». ولم يمضِ إلى أي «مكان آخر» (وإن كان من المفارقات أن يصدق ذلك القول أيضًا، بمعنى أن الجمهور سوف يدرك بعد قليل أنه يشاهد القناع لا روميو الحقيقي!): Tut! I have lost myself; I am not here, This is not Romeo! he’s some other where! i. 188-189) أما الدافع إلى روح الهزل والدعابة التي تشيع في المشاهد الأولى من المسرحية فهو إبراز التناقض بين لهو الشباب الذي ينغمس فيه روميو وأصدقاؤه من الأغنياء المدلَّلين — وأهمهم مركوشيو — وبين رنة الجد التي تغلب على كلامه بعد لقائه جوليت ذلك اللقاء «القدري» العجيب! فالمشهد الثاني يبدأ بدايةً منثورةً؛ إذ يقدم لنا شيكسبير تنويعًا على ثيمة الحب والزواج من وجهة النظر المقابلة، التى يولدها شيكسبير عن طريق التناقض بين الشعر والنثر، والجد والهزل! فالخادم الذي يشير إليه المخرج في قائمة الممثلين على أنه مهرج يحاور روميو هكذا: وهما من أغْرقَتا — لكن ما ماتت أيهما — بالدمع الدافق! أفتاة أجمل من فاتنتي؟ قد رأت الشمسُ جميع الخلقِ، ولم ترَ أجمل منها من أول يومٍ خَلَقَ الناسَ الخالقُ! When the devout religion of mine eye I. ii. 88–93) كيف نتقبل هذه المبالغة الصارخة؟ إنها — كما قلت — مقصودة لكي تحدث التناقضَ مع مشهد اللقاء الأول مع جوليت، وبالبذاءة من فم المربية التي لا تستطيع أن تتكلم إلا نثرًا، وبالفكاهات الصريحة من مركوشيو الذي يتحول فيما بعد إلى النثر: أو «ولا مؤاخذة» إذا كنت مغروسًا في الحب، Rom: I dream’d a dream to-night. Mer: That dreamers often lie. while they do dream things true. I see, Queen Mab hath been with you! … She’s the fairies’ midwife … وهو ما أسميته بالإطار الاستعاري العام «وهم الحبِّ وطبيعته المتقلبة مثل الهواء»: Even now the frozen bosom of the north, And being anger’d, puffs away from thence ر : يكفي يكفي يا مركوشيو … ذاك كلام فارغ! م : كيانُهُ مثل الهواء في رهافته، ذاك الذي يسعى لأحضان الشَّمال الباردة، بنفوليو : الطبل يا طبَّال! م٤) for my mind misgives Some consequences yet hanging in the stars يبدأ في الاختفاء في نحو منتصف المشهد الخامس، وذلك حين يرى روميو لأول مرة تلك الفتاة التي قُدِّرَ لها أن تصبح زوجته جولييت! واختفاء التذبذب معناه ابتعادُ رنة الهزل عن كلام روميو تمامًا، وانفصاله عن أصحابه ورفاق لهوه؛ لكي يعلن بنبراتٍ حاسمةٍ: «من لم يذق طعم الجراح … يسخر من الندوب!» وهي بداية مشهد الشُّرفة الشهير (ف٢، لأنها كانت تحس بزيف عاطفته: كانت تعلم حقَّ العلم أن غرامك ينشدُ أبياتًا يحفظها، لكن لا يعرف معناها! O! She knew well Thy love did read by rote and could not spell أي إن القس يدركُ أن روميو لم يكن يقول ما يعنيه إلى حبيبته الأولى! ولذلك فإن فكاهات روميو الأولى كانت غير صادقة هي الأخرى؛ فيشبه الأبلَه الكبير الذي يجري هنا وهناك فرارًا من الصبية … ليخفي عصاه المضحكة في ركن بعيد! ولقد تسبب سوء فهم كثيرٍ من القراء لهذا الموقف القائم على المفارَقة في عدم فهم طبيعة «النغمات» الشعرية فيها، وبين غشم الكراهية التي تُبقي على العداء الذي يسلب أفراد الأسرتين صفاتهم الإنسانية! ونحن لا نصل إلى الصدام الحقيقي بين هذين القطبين من أقطاب المأساة إلا بعد أن يربط الحب بين روميو وجولييت بعقد الزواج المقدس، فروميو صادق في «نغمته» هنا: إنك إنْ تضمم أيدينا بالكلمات القدسية، لن أكترث بما يجرؤ أن يفعله الموت! Well ne’er wear out the everlasting flint: i. 16–20 هذي هي الفتاة أقبلت، إذ ما أخف زهو حامل الهوى! يعود النثر وتعود فوضى النظم كأنما أصبحنا غير واثقين من لون «النغمة» السائدة؛ Consort! What! dost thou make us minstrels? an thou make hath got his mortal hurt my reputation stain’d That gallant spirit hath aspir’d the clouds, Rom: This but begins the woe others must end! Ben: Here comes the furious Tybalt back again. Alive in triumph! and Mercutio slain? روميو : أصاب الفؤاد بلين الأنوثة، يدخل بنفوليو. بنفوليو : مات مركوشيو الشجاع! روحه ذات الشهامة قد تسامت للسحاب، رَدَحًا قبل الأوان! كيف تعفي قابل الأيام؟ صفحة الأحزان لن تُطوى سوى بعد زمن! يدخل تيبالت. بنفوليو : تيبالت عاد ثائرًا مغاضِبًا.