مقدّمة تتناول الدّراسة حُضور الذّاكرة والتّاريخ في خِطاب الإسلاموفوبيا (رُهاب الإسلام)، وكلا التّصوّرين يَضرّان بالإسلام والأديان وسُبل التّجسير وبناء التّعايش وانتصار القِيم المشتركة. وقد كانت مجابهة خِطاب الإسلاموفوبيا من الغربيين أنفسهم، فالعِلْمانيّة Laïcisme[2] مثلاً في فرنسا وعلاقتها بالدّين عموماً تختلف عن علمانية سويسرا وبلجيكا وألمانيا، إضافة إلى عدم التّمييز بين مراحل وتطوّر الرّؤية للإسلام والمسلمين في الخطاب والإعلام الغربيين ما قبل حادثة مانهاتن 11 سبتمبر وما بعدها، قراءة في بنية خطاب الإسلاموفوبيا وتطوّره ودخل المصطلح إلى المجال في اللغة الإنجليزية عام 1997 عندما قامت خليّة تفكير بريطانية يسارية التّوجّه تدعى “رنيميد ترست” Runnymede Trust باستخدام هذا المصطلح لإدانة الخوف والعنصرية تجاه الإسلام[3]. وهي شعبويّة تغترف من الهُويّة والذّاكرة والتّاريخ، وتختلف عن حالة الرّهاب الآسيوي الذي يجد في الأديان ملاذه لمجابهة الإسلام والمسلمين كأقليّات[4]، وفي الإعلام قد تحضُر الذّاكرة والدّين والقوميّة في خطابات الخوف والتّخويف من تزايد المسلمين المهاجرين، فتناول بعض البلدان الغربية لقضايا الإرهاب خصوصاً في بلدان السّاحل الإفريقي، وكلّها عوامل تتسبب في قتل الآلاف في بعض البلدان الإفريقية أكثر من الإرهاب الدّيني. وتزايد انتشار مظاهر الذُّهان من القادِم الأخضر، لاحظنا استمرار وتجدّد مكوّنين أساسين في الإسلاموفوبيا التي هي استمرار وتنويع للتّفكير الذي يأخذ لُبوسات في كل عصر ومرحلة منذ سقوط غرناطة 1492 ثم انتشار الجيوش العثمانية في بلدان غربية وبعد ذلك قيام الثورة الفرنسية (1789) وحملة نابليون بونابرت على مصر (1798) والاستعمار الغربي في القرن التاسع عشر وظهور الثّورات الاستقلالية وبروز الحركات الدينية كتنظيمات منذ الثلاثينات من القرن الماضي من رحم الحركة الإصلاحية، المكون الأول هو تأويل التاريخ والذّاكرة الذي يُغذّي ويقوّي هذه الفُوبيا ويكون ذلك في مجال البحث العلمي وبعض تيارات الاستشراق، وكيف أنّ المنهجيات الجديدة في العلوم الاجتماعية والإنسانية تكون عاملاً لعلاج “الذّاكرة المريضة” والتوجّه نحو “ذاكرة سعيدة” أو “ذاكرة تعايش”؟[5]. إنّ هذا التأويل الجديد للدّين في العالم والذي يجد سنده في الوسط اليميني المتطرف والعداء للأجانب يغفل الحقائق العلميّة والتطوّرات الجديدة في منهجيات التاريخ وعلم الأديان ومقارنتها ونتائج بحوث العلوم الاجتماعية والإنسانية، ويمكن هنا أن نقرأ الخلفيّة الدّينية التي تفضِّلها الإنجيلية الجديدة وتقوم باستدعاء مواقف ونصوص من التّاريخ. إن الفُوبيا تلجأ للمقاومة والانتشار والتّأثير على علاقات الشعوب والدّول إلى التأريخ والذاكرة والدّين وهي كلّها ترتبط بحالات الوجدان والنّزوع نحو القوميّة والأنا الجمعي الذي يعاني من الخوف من المستقبل، أي من الخطر القادم، وقد يكون “التّاريخ” و”الدّين” هما الدّواء إذا كان العلم والرغبة في العيش معاً وتحقيق الحقوق الإنسانية كشروط وحواضِن لمجابهة الدّاء. المكوِّنات المعرفيّة والتاريخية والاستشراقية لخطاب الإسلاموفوبيا فمفاعيل الاختلاف قد تكون أنفذ وأقوى كلما احتلّ العامل الدّيني مكانة معتبرة في النّظام الاجتماعي والسّياسي أو تمّ استدعاء التّاريخ والذّاكرة من أجل المغالبة السياسية والمصالح، فالخلاف قد يكون بين مجتمعات اليوم سياسياً وحول قضايا اقتصادية لكنّه يجري تركيب بطّاريات الموروث ليشتغل المخيّل الجمعي في لحظة الأزمات، ورواية المسلمين المعاكسة القائلة إنّ المسيحيين غزو ديارهم ونكّلوا بهم، وفصول الصّدام وروايات ذلك، فالاستشراق لم يكن كلّه نظاماً من الفكْر مُوحّداً، وكانت موضوعات المستشرقين هي علوم الإسلام من تفسير وفقه وأصول، الفرس، الترك، …إلخ، ثم بعد القرن العاشر كانت “حقبة الجهل النّاجم عن أوهام مخيّلة متسعة”[12]، وهذا الجهل عند المسيحيين اللاتينيين لم يكن عاماً فمسيحيي جنوب إيطاليا مثلاً ومسيحيي بلاد ما سمّي بالأندلس فيما بعد كانت لهم معرفة بالإسلام وبالمسلمين بسبب القرب الجغرافي والاحتكاك التجاري. وزامن ذلك سقوط القدس في يد الصّليبيين. فاعتمد في ذلك على ما ورد في التوراة وبعض نُصوص المؤلفين المسيحيين الشرقيين والبيزنطيين، وكون الإسلام حّرف الديانتين المسيحية واليهودية)، ويمثّل الشّر، ومصدر التّهديد القادم. آليّة الحصار: وهي عبارة عن فرض وجبة إعلامية ذات مضمون واحد في كل مصادر الأخبار، تروي وجهة النّظر الغربية من الأحداث مع تنويعات شكليّة. ثم الحديث في الإعلام للتأثير على العاطفة الدينية، وأن المسلمين والإسلام مصدر الإرهاب (الشّر). آليّة الإبهار: وتقوم على إهار المتلقي الغربي من خلال بلاغة الصّورة ومؤثرات الصّوت وتقنيات التّكبير والترّكيز والتّرميز والمزج والإسقاط والسّرعة في نقل الخبر، وطريقة تقديمه. 17] المثال الثاني البارز هو صحيفة “شارل أبدو” (Charlie Hebdo) التي فجّرها إرهابيون في يناير 2015 وقُتل جرّاء ذلك اثنا عشر شخصاً من بينهم ضابط مسلم، ولذلك نشهد في العشرين السنة الأخيرة تزايد الاهتمام بنظريات صدام الحضارات ونهاية التّاريخ، على اعتبار أنها تفسِّر حتمية “انتصار الليبرالية”، يعتبر البعض التطرّف الغربي في مواقفه تجاه الإسلام والمسلمين والمهاجرين، يجسّده اليمين المتطرف والإسلاموفوبيا من خلال المتخيّل والصّدام والصّراع في ظلّ النّيوليبرالية الجديدة، كما ذكرنا آنفاً. وقد لاقى ذلك تأييداً من جمعيات دينيّة مسيحيّة في الغرب، فهو الواقع الذي قد يستمر حسب بعض الخبراء والباحثين لسنوات قادمة خصوصاً بعد سيطرة اليمين المتطرف في بعض الحكومات الغربية، وهي تيارات دينية تعيد نشر بعض الخيال عن القيامة بما يخدم أجندات سياسية، الكنائس البروتستانية ذات التوجّه الإنجيلي الجديد ولها تأثير قويّ في الخيارات السياسية والعلاقات الدّوليّة، وهي القوّة التي توفّر الرخاء المادي، وصاحب ذلك بروز أكبر المبشّرين الدينيين في التلفزيونات الأمريكية، إنّ هذه الكنائس صارت مركبات اجتماعية وتبشر بالرخاء الأمريكي وتتلاءم مع العهد النيوليبرالي الجديد ويلعب “التليفانْجيليست” (المبشّر الأنجيلي التلفزي) دوراً كبيراً في ترويج مثل هذه التّصورات، في أمريكا توجد على الأقل ثلاثة اتجاهات إنجيلية، ويتمتع بالنفوذ وله برنامج خاص بالعدالة الاجتماعية. إذ تمثل 65 في المائة من مجموع الإنجيليين الأمريكيين، وتزاوج الوعظ الديني بالخطاب السياسي، وشهدت العمليات الانتخابية خلال عام 2018 في كل من كوستاريكا والبرازيل والمكسيك وكولومبيا وفنزويلا ظهور لاعب جديد وهي الانجيلية الجديدة واختيارها اليمين والمحافظين. وقد كونت تيارات الإنجيلية الجديدة لوبي سياسي داخل الحزب الجمهوري الأمريكي عبر مؤسّسات مؤثِّرة مثل السّفارة المسيحيّة العالميّة بالقدس التي تأسست عام 1980، [21] هناك مجموعة أخرى من العوامل التي من شأنها أن تغذي حالة الرُّهاب من الإسلام والمسلمين يمكن حصْرها في: استمرار الإرهاب في مناطق عديدة من العالم، والأمر الذي ينعكس بدوره على تفاقم وانتشار ظاهرة الإسلاموفوبيا. يبدو أن خطاب الإسلاموفوبيا سيستمرّ بنفس الوتيرة، خاصة أن آليات مكافحته القانونية والسّياسية والثّقافية غير كافية حتى الآن، كما أن معضلة الخطاب الديني المتطرف والجماعات المسلحة باسم الإسلام ومفاهيم “الخلافة” و”الولاء للدين لا للوطن” وإقامة “الدولة الإسلامية” وغيرها مازالت تشكّل مخزوناً فكرياً وإيديولوجيا لحركات دينية تنشط في أوربا وتشكّل عامل إعاقة للمُواطنة وإدماج المهاجرين والأقليات المسلمة في بلدانهم الأوربية[22]. وأبرز مثال على ذلك، وكيف نستثمر الثّقافة والدّين في مواجَهته، وذلك بالوقاية منه بداية في مجالي التربية والتعليم ثم الإعلام، وتأصيل الوقاية من “الكراهيّة” والبحث عن “المواطنة التعايشية” من خلال “القِيم الأخلاقية الكونيّة”. جاء إعلان يوم للتسامح وإنشاء وزارة له في دولة الإمارات العربية المتحدة، وإطلاق “وثيقة الأخوة الإنسانية” التي وقعها في أبوظبي عام 2019 البابا فرنسيس بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب. وكذلك هناك مساعي رابطة العالم الإسلامي تحت قيادة أمينها العام الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى في تحقيق التعايش الديني والثقافي ومجابهة الكراهية والإسلاموفوبيا بناء على ما جاء في “وثيقة مكة” التي صدرت في مايو 2019. وإضافة إلى ما سبق، يمكن اقتراح مجموعة أخرى من الآليات الوقائية لمكافحة الإسلاموفوبيا وذلك كالتالي: هناك حاجة إلى تعزيز خطاب ديني معتدل متسامح يحلّ الأشكال بين مفهوم “الولاء للدين” و”الولاء للوطن” واعتبار “المواطنة” مقصداً دينياً من أجل تحقيق السلم والتعايش والطمأنينة، ومن شأن ذلك أن يدفع الغرب الليبرالي إلى تعديل رؤيته الموروثة من القرن السادس عشر والسابع عشر الخاصة بالمواطنة التي لا تعترف بالقوميات والإثنيات أو تجعلها في مرحلة تالية،