أولاً: الحداثة والدين حين وصلت فيه إلى أعلى درجات النضج. وبين الأسلوب الرومانسي والكلاسيكي. وكانت هذه الفترة تشهد ترحيبًا بالتطور التكنولوجي وفي الوقت نفسه استنكارًا له، فأن الحداثة تعبر دائماً عن وعي خاص بها ومتمركز بذاتها، فالحداثة عنده بشكل شامل تتطلب دراسة متعمقة وفهم عميق لمفهوم الوعي وكيفية تأثيره على المجتمع والثقافة. ولكن أيضًا كمجموعة من المفاهيم والقيم التي تؤثر على نمط الحياة والتفكير والسلوك في المجتمعات البشرية. حيث يعكس الفهم والتفاعل مع العالم من حولنا، ويشمل تأثير العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية على تكوين آراء وتصرفات الأفراد والمجتمعات بشكل عام. من خلال فهم مفهوم الوعي، وكيف تؤثر هذه التغيرات على فهمنا للحداثة ودورها في تشكيل العالم الحديث. يرى هابرماس أن الحداثة تسعى إلى استخلاص معاييرها الخاصة من ذاتها، يرى هابرماس أن هذا النهج هو جوهر الحداثة، ولا يمكنها الاعتماد على المعايير والقيم التقليدية التي لا تلبي احتياجات العصر الحديث( ) كما أن فكرة الحداثة لا تقتصر على تجديد القديم بل تشمل أيضًا تكوين مسار جديد بشكل كامل، أشار إلى أن الحداثة تعكس الزمن الذاتي لذاتها، ويستند إلى فهم معروف بالفعل. بالنظر إلى هذه التحليلات، ومنه يمكن اعتبار هابرماس في مجال الحداثة الفنية فيلسوف ما بعد حداثي، كما يضع هابرماس فلاسفة فرانكفورت تيودور أدورنو Theodor Ludwig Wiesengrund Adorno (1903- 1969) وماكس هوركهايمر Max Horkheimer (1895-1973) في صف واحد مع فلاسفة ما بعد الحداثة خاصة في كتابهما جدل التنوير ويصف ممارستهما بالنقد الكلي، حيث يقول "إن كلا من الجدل السبلي كتاب أدورنو الشهير، والتفكيك ويقصد جاك دريداJacques Derrida (1930-2004) والجينيالوجيا ويقصد ميشال فوكو Michel Foucault (1926-1984) قد مارس نقداً كلياً ونستطيع أن نقول عدمياً للعقل وذلك بدون أساس وبدون تحديد الموقف الذي ينتقدون منه وبدون الدفاع عن معياراً آخر خلافاً لكل المعايير التي يفقدونها و الأكثر من ذلك أنهم لا يدركون ما يترتب عن نقدهم سياسياً" ( ). حيث يشير إلى نظرتهما الأداتية للحداثة، أي أنهما اعتبرا الحداثة بمثابة تطور اقتصادي واجتماعي يرتكز على الإنتاج والتقنية، حيث شكلت حركة الإصلاح الديني حدًا لسلطة الكنيسة وتدخلها في الشؤون السياسية والاجتماعية. ويُظهر هابرماس أن العقلنة الأداتية التي ظهرت في المجالات الاقتصادية والسياسية ساهمت في تحول العالم المعيش نحو الاعتماد الكبير على الإدارة والتسيير، وهذا الوضع هو الذي أعطى الفرصة لفلاسفة ما بعد الحداثة لنقد الحداثة ، مركزين على الجوانب السلبية لها، بما في ذلك الجوانب الأداتية والوظيفية لعملية العقلنة. اذ يرى هابرماس أن هذا النوع من النقد لا يجب أن يحصر الحداثة في جوانبها الاقتصادية والسياسية فقط. بل يجب فهم الحداثة بشكل أوسع، يعتبر هابرماس أن العقلانية التواصلية تشكل جانباً مهماً وقوياً للحداثة، هذا التحليل يعكس توجهًا جديدًا في فلسفة ما بعد الحداثة، حيث يميز هابرماس بين الحداثية وما قبل الحداثية وما بعد الحداثية، وإن هذا التميز بين أنواع الحداثة المختلفة والذي يقوم به هابرماس كلما كان بصدد الحديث عن الحداثة يراه مهم ونافع وذلك لتجديد فهم المجادلات الفكرية والسياسية في عالمنا المعاصر. يربط هابرماس بين الحداثة والكلاسيكية، حيث يرى أن الحداثي يحتفظ بعلاقة سرية مع الكلاسيكي. يشير هابرماس إلى أن ما يستمر عبر العصور ويحظى بتقدير واعتراف كلاسيكياً ليس بالضرورة يكون مرتبطًا بالماضي بل قد يكون له فعالية وأهمية حالية. الحداثة لا ترتبط بالزمن بقدر ما ترتبط بذاتها، بل يمكن أن تكون القطيعة معه ضرورية للوصول إلى مستقبل جديد ومتجدد ، يعتبر هابرماس الحداثة كظاهرة تتأثر بزمانها وتعتمد على السياق الاجتماعي والثقافي الذي تنشأ فيه. فإن الحداثة ليست مجرد فترة زمنية تنتمي إلى الماضي، بل هي تجربة مستمرة تنشأ وتتطور في كل عصر. وبناءً على هذا المفهوم، ويشير إلى كيفية استخدام مصطلحات مثل "ما بعد التنوير" و"ما بعد التاريخ" لتعبير عن هذا التوجه نحو التجديد والتحول بعد الحداثة. يركز هابرماس على الفكرة أن المحافظين الجدد يسعون إلى التخلي عن الحداثة والبحث عن ما بعد الحداثة أو المعاصرة، ما يقوله هابرماس يعكس فهمه الشامل للتحولات الاجتماعية والثقافية التي يشهدها العالم. بالنظر إلى ما سبق، وهو مفهوم يشمل العديد من الجوانب مثل التطور الاقتصادي والسياسي والثقافي والتكنولوجي. هو عملية معقدة ومتشعبة تضم في نفسها جميع الابتكارات والإبداعات التي قام بها الإنسان في مختلف المجالات. حيث يقوم على دلالات أساسية وهي العقل من حيث "أنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك ويحبس نفسه ويردها إلى هواها" ( ). يعتبر بعض الفلاسفة أن إيمانويل كانط هو الرائد الحقيقي للحداثة الفلسفية بسبب تأكيده على مفاهيم الذاتية، والنقدية - مفاهيم رئيسية تشكل جوهر الفلسفة الحديثة. يستكشف كيف يمكن للفلسفة الحديثة أن تعالج المشاكل الناشئة عن الانفصال الحديث بين الفرد والمجتمع، وفي نفس الوقت ينظر إلى هذا الانفصال على أنه ضياع للروابط بين الفرد والمجتمع في وحدة شاملة كان يوفرها الدين "وحدة كانت تجمع شمل المجتمع في حياة أخلاقية كما نظر إلى تمايز المجالات العلمية والفنية على أنه ضياع لوحدة العقل وشموله، يجد نفسه الآن في سياق تنافسي مع أنماط معرفية أخرى تعتمد على العقلانية والعلم. يشير أيضًا إلى أنه لا ينبغي إهمال الدور الذي يمكن أن يلعبه الدين في توفير الرؤى والتأويلات التي تساعد المجتمعات على التنقل في مراحل التحول الكبرى. معترفًا بالتحديات التي تواجهها الحداثة مع الإقرار بأن الدين لا يزال يحتفظ ببعض القدرة على توفير معنى واتجاه في أوقات الأزمات والتحول. أي أن الدين يوفر نوعًا من المقاومة أو الحماية ضد التوجهات العقلانية المفرطة في المجتمعات الحديثة. يؤكد فيبر على أن الدين لا يزال يحتفظ بأهمية كبيرة ومعنى في المجتمعات التي تركز على المساواة. معترفًا بأن العملية التي يُطلق عليها "الدهرنة" (أي التحول نحو العلمانية والتقليل من الأهمية الاجتماعية والعامة للدين) قد أحرزت تقدمًا ولكنها أتت أيضًا بخسائر، اذ يؤكد على أنه من الضروري للمجتمعات العلمانية أن تأخذ الدين بعين الاعتبار وأن تدمجه في فهم الذات والمجتمع. يشير هابرماس أيضًا إلى أن جزءًا من المسؤولية عن تراجع دور الدين يقع على عاتق المواطنين المتدينين أنفسهم، وأن يتم ترجمة المعتقدات الدينية فكريًا ولغويًا إلى خطاب واضح يمكن فهمه وتقبله على نطاق أوسع. يدعو إلى إعادة دمج الدين في الحياة العامة كجزء من فهم أكثر شمولاً للذات والمجتمع، مشددًا على الحاجة إلى التواصل بين الأفكار الدينية والعلمانية للتغلب على التحديات الاجتماعية الحديثة. بما في ذلك مشكلة القيم. بمن فيها الأصوات الدينية، يشير هابرماس إلى أن المضامين الدلالية للدين قد تساهم في مواجهة التحديات الاجتماعية الحديثة والحفاظ على أسس الحداثة المجتمعية. هذه الفكرة متماشية مع موقفه السابق بشأن أهمية إعادة دمج الدين في الحياة العامة كجزء من فهم شمولي للذات والمجتمع. وأن الدولة يجب أن تكون جامعًا حقيقيًا يضمن تمثيلًا لجميع الأصوات ويسهم في توجيه المجتمع نحو الرفاهية والعدالة الاجتماعية. ولكن رغم ما حققه هذا الرأي من مؤيدين على أنه رأي متميز ونظرة ثاقبة يتميز بها الطرح الهابرماسي إلا أننا نلاحظ أن هذه الحلول التي يقدمهما هابرماس في مجال الدين والعلمانية لا تصلح إلّا في ألمانيا وذلك باعتراف هابرماس نفسه عندما قال "إن النموذج الذي أطرحه يصلح أكثر في الثقافة السياسية التي تسود ألمانيا" ( ). كما انتقدهم لوصفه المجتمع الحديث بأنه "ما بعد الديني" بسرعة، دون إعطاء الدين والقيم التي يحملها الدين فرصة كافية للتأثير والتفاعل في المجتمع. وتقديرها كمصدر هام للقيم والأخلاق التي تسهم في تحسين الحياة الاجتماعية والمجتمعية. وكذلك على المتدينين الذين يعتقدون بامتلاكهم الحقيقة أن يدركوا أهمية التسامح مع وجهات النظر الأخرى. يرى أن المجتمعات التقليدية كانت تتماسك عن طريق مفهوم عام للمقدس وبالتالي لم يكن هناك حاجة للمساس بالشرعية التي كانت محددة من قبل الحركات الدينية. تحولت هذه الشروط وأصبحت غير قادرة على الحفاظ على التماسك الاجتماعي بنفس الطريقة. يشير إلى تأثير الهيلنية على المسيحية وكيف أدى ذلك إلى تبني الدين لمفاهيم الميتافيزيقا. يشير هابرماس إلى أن كانط كان الذي قام بتمييز بين الإيمان الأخلاقي الذي يعتمد على العقل والفهم، وبين الإيمان الوضعي الذي يعتمد على الوحي الديني،