إن تطور الفكرة الصليبية في الغرب الأوروبي الكاثوليكي كان نتاجا للتطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي نجمت عن انهيار سلطة الإمبراطورية الرومانية في الغرب في القرن الخامس الميلادي، فقد كانت الحركة الصليبية نتاجا للتفاعل بين الكنيسة والإقطاع وتجلى هذا في أوضح صورة من خلال النزاع بين الكنيسة والدولة من جهة، والنزاع بين الدولة وأمراء الإقطاع من جهة أخرى. تعبيرا عن هذا الاتجاه الذي جعل الحملة الصليبية مشروعا لحل مشكلات أوروبا القرن الحادي عشر الميلادي على حساب المنطقة العربية وتحويلها إلى مجال حيوي للنفوذ السياسي والاقتصادي لأوروبا الكاثوليكية. والحملات التي تلتها عن معادلة هامة تحكم التاريخ السياسي لهذه المنطقة، فقد نجحت الحملة الأولى بفضل التشرذم والتمزق السياسي الذي جعل المنطقة نهبا للنزاع بين السنة في بغداد والشيعة في القاهرة وأتباعهما في بلاد الشام، وبين السلاجقة والعرب، وقد تعين على الغرب الأوروبي أن يدفع بموجات تلو موجات للدفاع عن النصر الذي حققته الحملة الأولى. الوحدة والعمل المشترك في الجانب الإسلامي يقابلهما تدهور وهزيمة في الجانب الصليبي والعكس صحيح تماما. إن حصاد المواجهة الإسلامية الصليبية كان سلبيا على الجانب العربي الإسلامي، إذ تعين على المنطقة أن تحشد كل مواردها وإمكاناتها في خدمة المجهود الحربي، وكان الإفراز السياسي هو نموذج الدولة العسكرية الإقطاعية، ولكنها فشلت في إدارة المجتمع على أسس مدنية، وحين تدهور نظامها السياسي بدأت تمارس التسلط على شعوبها وهو الأمر الذي أدخل المنطقة في منحنى التدهور الحاد منذ القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي. جاء في نيوزويك تحت عنوان آخر الصليبيين ما يلي : اقتلوهم كلهم، سمعت هذا المبدأ الدموي للمرة الأولى في بيروت في الثمانينات، حيث كان مكتوبا على قمصانهم ومنقوشا في شكل وشم على سواعدهم. (كان المسيحيون المتشددون يبيدون غيرهم من المسيحيين بالأعداد نفسها التي كانوا يقتلون بها المسلمين في تلك الأيام). وترك مسألة فرز الطيب من الخبيث للرب هذا النوع من التفكير ليس مسألة تاريخية قديمة بالنسبة إلى تنظيم القاعدة. فأسامة بن لادن وأتباعه الشباب يرون أنفسهم - من دون مزاح - وهم کفرسان إسلاميين في تلك الحروب الدينية التي مضت عليها 900 سنة . يخلقون هالة من الفروسية في أوساط المتدينين ويستشهدون بالقرآن بحماسة مجردة من الإنسانية مطابقة تماما لتلك التي كان يحس بها رئيس دير شينو عندما استشهد بالإنجيل في بلدة بيزيي الفرنسية. ففي أذهان الكثير من العرب والمسلمين أن قيام أتباع بن لادن بمهاجمة الولايات المتحدة المغرورة وإسرائيل المولعة بالحرب شيء، حتى المتدينون المتعصبون لا يؤمنون بفكرة العصور الوسطى القائلة أن الله يتولى تصحيح الأخطاء التي يرتكبها المتدينون المتعصبون باسمه. ولذلك بدأنا نقرأ في مواقع الحوار المؤيدة لبن لادن عادة على شبكة الإنترنت محاولات لإيجاد تبريرات لمذبحة الرياض يقول بعضها إنها مؤامرات شنيعة من تدبير الأمريكيين أو الإسرائيليين أو الحكومة السعودية لإشانة سمعة فرسان القاعدة البواسل. فلشبكة القاعدة تاريخ طويل من العنف الذي كان وبالا عليها . فعلى سبيل المثال، لم تتمكن الحكومة المصرية في التسعينات من سحق الجماعات الإسلامية بالإجراءات القمعية وحدها، فقد حاولت تلك الجماعات قتل رئيس الوزراء عام 1993 بتفجير قنبلة، كما حاول الإسلاميون تدمير الاقتصاد فقتلوا 58 سائحاً في الأقصر عام 1997. وعليه فإن القاعدة جلبت لنفسها مشكلة بما فعلته في الرياض. والسؤال المهم هو كيف سيتم استغلال هذه المسألة ليس فقط لإضعاف أنصار بن لادن، فهل تستطيع الحكومة السعودية أن تفعل ما فعلة المصريون في التسعينيات؟ يقول : أندرو سيلك، وكان سيلك يعد دراسة عن التأثير السياسي للعمليات الإرهابية التي تسفر عن وقوع ضحايا بين الأطفال. فهو يقول ( من وجهة نظر الإرهابيين يستطيعون فعل أشياء للحد من الأثر السلبي لتلك العمليات». فالجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت على سبيل المثال، اعتذر وتنازل بهدوء عن الأساليب التي أدت إلى مقتل ولدين في وارنغتون عام 1993، كما وجد الجيش الجمهوري الحقيقي نفسه مضطر للدخول على مضض في وقت لإطلاق النار بعد تفجير أو ماغ عام 1998 الذي أسفر عن وفاة 12 طفلاً بين ضحايا التفجير البالغ عددهم 29 قتيلاً. بالنسبة إلى هجوم السعودية يقول سيلك : «سيتلقى تنظيم القاعدة ضربات لهذا الهجوم. وقد يؤدي ذلك إلى كشف أعداد منهم لأجهزة الأمن على المدى القريب، لماذا؟ يرى سيلك أن السبب في ذلك يعود إلى أن مأساة الحرب المتصاعدة في العراق تساهم باستمرار في تقويض الجهود التي تقوم بها الحكومتان السعودية والأمريكية لهدم مصداقية الإرهابيين في الواقع، بحلول نهاية هذا الأسبوع أصبح العنف العشوائي المتزايد الذي تقوم به القوات الأمريكية في عملية المطرقة الحديدية» يستحوذ على معظم الاهتمام في العالم الإسلامي. وكما كان عليه الحال بالنسبة إلى الجنود الأمريكيين المحبطين في بيروت في أوائل الثمانينات، أصبح الأمريكيون في بغداد يشعرون باستحالة التمييز بين العدو والصديق وعليه فقد لجأوا للاستخدام المفرط للقوة بهدف إخافة الأعداء المشتبه فيهم. أصبح الاحتلال يتحول شيئًا فشيئا إلى عمليات قتال رئيسية. إذا كنا لا نستطيع التمييز بين العدو والصديق، فنحن لا نستطيع قتلهم جميعاً. وعلى الرغم من أن بن لادن يريد منا أن نفعل ذلك إلا أننا لم نتحدر إلى العصور المظلمة على الأقل حتى الآن(1). وبما لا يتناسب والمكانة السياسية الهامة للملكية البريطانية آنذاك على الرغم من المبالغ الطائلة التي أغدقها الملوك بريطانيا عامة على المؤسسات العسكرية والدينية الصليبية في الأرض المقدسة، والتي بلغت ذروتها في عهد هنري الثاني علها تكون بديلاً عن إخافتهم في الذهاب شخصياً إلى هناك ليصبح النذر الصليبي بالنسبة لجميع ملوك إنجلترا مجرد وعود جوفاء، وعلى مدى القرنين الثاني عشر والثالث عشر بات واضحا اتساع هوة التباعد بين المصالح والأولويات السياسية لملوك بريطانيا، والذهاب في حملة صليبية إلى الشرق، ليصبح قيام أي ملك إنجليزي بحملة صليبية أمراً بعيد المنال. والتي كان لها أكبر الأثر في ضمان إحياء مملكة بيت المقدس لمدة قرن آخر سرعان ما ضاع هذا الانتصار هباء، والحملة الصليبية للأمير إدوارد وأخوة ايدموند وحملة وليم لونج سبي، ما عدا النجاح الدبلوماسي الذي أسفرت عنه صليبية إيرل كورنول . نستطيع أن نقول أنه لو قدر لملوك بريطانيا في أضواء السياسية للملكة آنذاك الذهاب شخصياً في حملة صليبية إلى الأرض المقدسة، وكيف أدت إلى نتائج سيئة سواء بالنسبة له أو لرعاياه، وقد تكلفت دولة سلاطين المماليك في مصر والشام (648) - 922 هـ / 1250 - 1517م) بمواجهة هذا العبث الصليبي. إعلانا بنهاية المواجهة العسكرية. وانتهاء آخر فصول المواجهة العسكرية لم يكونا ليحولا دون تفاعل الآثار التي خلفتها الحروب الصليبية على العالم العربي، إذ استمرت تداعياتها تفرز استجاباتها للتحدي الحضاري الذي فرضه العدوان الصليبي على المنطقة العربية والعالم الإسلامي. فإن الاستجابات التي خلفتها هذه المواجهة تجلت في عدة مستويات سياسية وعسكرية، واقتصادية واجتماعية وثقافية ومن نافلة القول أن ننبه إلى أن التفاعل بين هذه الجوانب جميعا أمر تحتمه ضرورة حركة التاريخ، واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وتبرز الاستجابة السياسية للتحدي الذي فرضه العدوان الصليبي على العالم العربي في الحقيقة القائلة إن نموذج دولة الخلافة قد انتهى عمليا في خضم الصراع ضد الفرنج على الرغم من بقاء الخلافة لتلعب دور الرمز الديني والواجهة الشرعية. ومع أننا تسلم بأن عوامل التدهور والاضمحلال كانت تهدم نموذج دولة الخلافة، وتنخر في بنيانه منذ فترة قبل الحروب الصليبية، فإن حقائق المواجهة العسكرية السياسية کرست نموذج الدولة العسكرية التي يقودها ملك محارب بدلا من الدولة التي يقودها خليفة لا يتمتع بأي سلطة حقيقية مثلما كان حال كل من الخلافة العباسية في بغداد والخلافة الفاطمية في القاهرة عندما بدأت قوات الصليبيين تطأ أرض المنطقة العربية. أو في الإمارات والدويلات التي مزقت بلاد الشام والجزيرة عشية الحروب الصليبية) غير قادرة على قيادته سياسيا وعسكريا في مواجهة الهجوم الصليبي الاستيطاني. وأدان الرأي العام تخاذل الخليفة العباسي عندما توجه إليه عدد من أهل الشام بصحبة القاضي أبي سعد الهروي» بعد سقوط بيت المقدس بأيدي الصليبيين عام 492هـ / 1099م. الحقد الصليبي على الإسلام والمسلمين ما الجديد فيه والوصف الصليبي للإسلام والمسلمين متى تغير وتبدل وقسيس الفاتيكان الأخير ما الجديد في كلماته السيئة التي طالما لامست أسماعنا. فلا نكاد ننسى كيف بادر وبدون مقدمات بعد أن استلم مهمته الجديدة في الفاتيكان بإطلاق كلماته المؤيدة لعصابات العدوان والقتل والتشريد من اليهود وكيانهم في أول حفل استقبال لسفراء السلك الدبلوماسي المعتمدين في دولة الفاتيكان. ولعل التقارير التي يقرأها حول انتشار الإسلام وأعداد المهتدين الجدد تتجاوز توقعاتهم، مع كل إعداداتهم وإمكاناتهم الكبيرة أفقدته صوابه وأنطقته بكلمات ظالمة من المعاناة النفسية التي هو فيها ولهذا نقول : شئتم أم أبيتم الدين الإسلامي هو آخر الأديان، ومحمد هو خاتم الأنبياء، كلمات ومواقف وشهادات ونصوص نقدمها لمن لم يقرأ كتاب ربنا ولا سنة نبينا، ليقف عندها كل منصف أراد الحقيقة، ولم يحظ الإنسان - أيا كان جنسه أو مكانه أو مكانته أو زمان عيشه - بمنزلة أرفع من تلك التي ينالها في ظلال الدين الحنيف الإسلام» وما ذلك إلا لأن الإسلام دين عالمي ورسوله أرسل للعالمين كافة. وكان يداوم على برهم، حتى إن امرأة يهودية وضعت له السم في ذراع شاة أهدته إياها. وشواهد التاريخ ملأى بتلك الحوادث التي يشهد لها المنصفون، وثقت بمعاهدات نذكر صورة منها وهي العهدة العمرية التي أعطاها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسكان القدس من النصارى عند فتحها والتي جاء فيها : ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود». وتحرير بيت المقدس على يد المجاهد صلاح الدين الأيوبي كانت صورة للفاروق بين سماحة الإسلام حين يحكم وتكون كلمته هي العليا، وبين الحقد الصليبي وغدرهم حين احتلوا بيت المقدس وعاثوا فيه الفساد من ذبح وقتل أكثر من سبعين ألفا من المسلمين في عام 492هـ. وبقاء غير المسلمين على دينهم قرونا متتالية في الشام ومصر والأندلس دليل على سماحة الإسلام، فها هم يهود السامرة ويطلق عليهم السامريون كانوا وما زالوا يسكنون مدينة نابلس وقد حفظ المسلمون منذ الفتح العمري إلى اليوم وها هي كنائس النصارى في فلسطين وغيرها من الأوطان يدل وجودها إلى الآن أنها برعاية المسلمين. كما سمح الإسلام لغير المسلمين بإقامة حياتهم الاجتماعية (الأحوال الشخصية على تشريعاتهم الخاصة كالزواج والطلاق ونحو ذلك. يقول «غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب): «كان يمكن أن تعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم، ويسيئوا معاملة المغلوبين، ويكرهوهم على اعتناق دينهم الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم . فقد أدرك الخلفاء السابقون الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة أن النظم والأديان ليست مما يفرض قسراً، فعاملوا كما رأينا أهل سوريا ومصر وإسبانيا وكل قطر استولوا علية بلطف عظيم، تاركين لهم قوانينهم ومعتقداتهم غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة في الغالب إذا ما قيست بما كانوا يدفعونه سابقا، في مقابل حفظ الأمن بينهم، ومن الصور المشرقة لحماية المسلمين موقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حينما تغلب التتار على الشام، فما كان من شيخ الإسلام إلا أن قال : لا نرضى إلا بإطلاق سراح جميع الأسارى من اليهود والنصارى فهم أهل ذمتنا، هكذا عامل الصليبيون المسلمين في القدس عندما احتل الصليبيون بيت المقدس في يوم الجمعة الثالث والعشرين من شعبان 492هـ ، وظل الصليبيون محتلين لبيت المقدس إحدى وتسعين عاما، وأصبحت مدينة بيت المقدس مخاضة واسعة من دماء المسلمين أثارت خوف الغزاة واشمئزازهم. وأوضح غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) كيف عامل الصليبيون المسلمين في القدس، ووثق ذلك بشهادة ريمون أجيل» الذي وصف بشاعتها بالآتي : لقد حدث ما هو عجيب عندما استولى قومنا الصليبيون على أسوار القدس وبروجها، فقد قطعت رؤوس بعض العرب وبقرت بطون بعضهم وقذف بعضهم من أعلى الأسوار وحرق بعضهم في النار، ولم يستثنوا منهم امرأة ولا ولدا ولا شيخا . فقد فر بعض القوم من الذبح فألقى بنفسه من أعلى الأسوار، غير أن هذا كله لم يخفهم عن أعين النصارى الذين كانوا يتبعونهم أينما ساروا، ومشى أولئك المنتصرون فوق أكوام من الجثث الهامدة وراء أولئك الذين يبحثون عن ملجأ أو مأوى. لقد ضرب صلاح الدين مثلا عظيما في سماحة الإسلام وقوته وعزته، استقر رأي صلاح الدين في مجلس الشورى الذي عقده أن يؤخذ من الرجل عشرة دنانير يستوي فيه الغني والفقير والطفل من الذكور والبنات دينارين، والمرأة خمسة دنانير فمن أدى ذلك إلى أربعين يوما فقد نجا، وسنكتفي كذلك بوصف سماحة الإسلام وعدالته بما شهد به الصليبيون أنفسهم : يقول استيفن سن): «إن السلطان قد سمح لعدد كبير بالرحيل دون فدية». ويقول المؤرخ البريطاني (مل): ذهب عدد من المسيحيين الذين غادروا القدس إلى إنطاكية المسيحية فلم يكن نصيبهم من أميرها إلا أن أبى عليهم أن يضيفهم، فطردهم فساروا على وجوههم في بلاد المسلمين، فقيل الصلاح الدين لم لا تصادر هذا فيما يحمل، وفي ذلك يقول (ستانلي لين بول): قد وصل الأمر إلى أن سلطانا مسلما يلقي على راهب مسيحي درسا في معنى البر والإحسان. فهذا هو الفارق بين سماحة الإسلام حين يحكم وتكون كلمته هي العليا، وبين الحقد الصليبي وغدرهم حين يحكمون (1) . أثبتت الأمة العربية - عبر تاريخها الطويل - والتي وجدت في الإسلام معينا لا ينضب قدرتها على تحدي الغزاة والطامعين وسد الطرق على الحكام الذين يحاولون الانحراف بها إلى طريق الخيانة واعتماد أساليب الضغط والإرهاب للحيلولة دون توحيد كلمتها . لقد برهنت هذه الأمة على حيويتها المتجددة في الدفاع عن مصالحها وطرد الدخلاء من أوطانها فمنذ أن وطأت أقدام الغزاة الصليبيين أرض المشرق العربي ومحاولات المسلمين تجري لاستبعاد عوامل الفرقة والتشتت وعدم السماح بظهور الانقسامات والانشقاقات بين صفوفهم، إن التأكيد على وحدة المسلمين في بلاد الشام أصبحت ضرورة تاريخية لمواجهة الصليبيين الذين تفاقم خطرهم واستحوذوا على مناطق من بلاد الشام والجزيرة وتمركزوا في مواقع وراحوا يتوسعون فيها على حساب المسلمين وسخروا حفنة من المتخاذلين وتعاونوا معهم، ومن أمثال هؤلاء مجير الدين أبق جمال الدين محمد بن تاج الملوك بوري ومدبر دولته معين الدين أثر اللذين حكما من 534 549هـ، وقد رفضا التحالف مع عماد الدين زنكي ضد الصليبيين، كما رفضا أن تكون دمشق مركزا لانطلاق الجيوش الإسلامية لدك مواقع الصليبيين ومطاردتهم في بلاد الشام والجزيرة، بل تماديا بمراسلة الصليبيين والتعاون معهم عماد الدين زنكي، وقد أجابهم الصليبيون إلى ذلك، غير أن عماد الدين زنكي راح يهاجم الصليبيين بالقرب من حوران، إن الهجوم الذي شنه عماد الدين زنكي على جيش الصليبيين أفسد تحالفهم مع حكام دمشق و حال دون دخولهم المدينة - ) . إن تفاقم الخطر الصليبي في بلاد الشام والجزيرة أوجد ضرورة للتحالف بين القوى الإسلامية في المنطقة كما أن اهتمام المسلمين بتكوين الجبهة الإسلامية لمجابهة هذا الخطر، الذي كان يهدد العالم الإسلامي في بداية القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي يرجع إلى مشاريع عماد الدين زنكي أمير الموصل، الداعية إلى توحيد المسلمين في قلب بلاد الشام، فقد صادف المسلمون في عماد الدين زنكي رجلا قادرا على توحيد القوى الإسلامية، فيشير المؤرخون إلى أن أمير الموصل انهمك في هذه الفترة بوضع خطط بتوحيد الدول والمماليك الإسلامية، كي يكون أكثر قدرة على مجابهة الصليبيين، ولأجل ذلك قام بعدة عمليات عسكرية ومناورات سياسية في جهات الشام والجزيرة الفراتية، إخضاع الإمارات والدول الإسلامية وضمها لإمارته والاتجاه إلى بلاد الشام، لتوحيدها وتكوين دولة واحدة ذات حكم مركزي، تقوى على الصمود أمام تحديات القوى المناوئة وتكون قادرة على مواجهة الصليبيين وأطماعهم. واستطاع عماد الدين أن يفرض الحصار على دمشق وكاد أن يسقطها لولا استنجاد أمرائها بصليبي بيت المقدس واستجابة هؤلاء رغبة منهم في القضاء على الخطر المشترك الذي يتأتى إليهم من وجود عماد الدين زنكي في المنطقة، إن تجميع القوى الإسلامية في هذه الفترة تعترضه بعض الصعوبات فعوامل التجزئة والانقسام كانت على أشدها نتيجة لعدم وجود الرأي الموحد فيما يتعلق بالموقف من الصليبيين وكذلك وجود عدد كبير من إمارات المدن والإمارات الصغيرة التي تبدو ضعيفة ومفككة أمام الغزو الصليبي، ولكن عماد الدين زنكي استطاع أن يوجه الظروف التاريخية القائمة لصالح المسلمين فعمل على تجميع القوى الإسلامية وقضى على عوامل التفرقة والانقسام، وسعى إلى توحيد المدن والإمارات المنفصلة واستطاع أن يحقق برنامجه ذا الشقين، وهو بذلك أول قائد إسلامي قام بتجميع هذه القوى وفق برنامج معين ليجابه بها تزايد الخطر الصليبي الذي لم توقفه على ما يبدو المحاولات التي سبقته وخاصة تلك التي تمت على يد كل من مودود التونتكين 502 - 518هـ وابلغازي الارتقي 512 - 518 وآق سنقر البرسقي 518 - 520هـ. كان عماد الدين زنكي يسلك طريق الهجوم العسكري لإخضاع الأمراء المتعاونين مع الصليبيين والمترددين أو الذين يقفون على الحياد، وبذلك يقضي على احتمال تشكيل حلف دفاعي مضاد من هؤلاء الأمراء وربما يتحول هذا الحلف فيما بعد إلى حلف هجومي ضده، كما حدث بالنسبة للارائقة. إن إزالة العقبات التي تقف أمام توحيد هذه الإمارات والمدن المتفرقة والمبعثرة في جبهة إسلامية موحدة، كان أهم عمل يشغل عماد الدين زنكي لكي تستطيع هذه الجبهة أن توقف الزحف الصليبي أولا ومن ثم تبدأ بالهجوم وفق أساليب وخطط منظمة على قواعد الصليبيين في بلاد الشام والجزيرة الفراتية . غير أن هذه الإمارات لم تكن تقوى على الوقوف بوجه هذا الخطر الصليبي الزاحف نحو الشرق وهي غير موحدة وستظل تشكل بنفس الوقت خطراً ضد إمارة عماد الدين زنكي في الموصل لقربها منها ولاستراتيجية مواقعها. شعر عماد الدين زنكي، إن السياسة الانعزالية للأمراء تجاه الخطر الصليبي سينجم عنها تشتيت لإمكانات المسلمين البشرية والعسكرية والاقتصادية ويؤدي بالتالي إلى تثبيت أقدام الغزاة الصليبيين في الشرق العربي. لذلك سعى الأمراء والقادة المسلمون أمثال مودود التونتكين ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي إلى القضاء على أسباب هذه الفرقة، فأحرزوا من الانتصارات ما أدى إلى توحيد مصر والشام وأعالي الجزيرة الفراتية، وبذلك تم حصر الصليبيين على الساحل وتحققت الوحدة الروحية للعالم الإسلامي. لقد تركز اهتمام المسلمين والصليبيين معا للاستيلاء على مدينة حلب، ومن قادة المسلمين الذين كانوا تطلعون إليها الأتابك آق - سنقر البرسقي وعماد الدين زنكي، حيث عول الأخير على إقامة إمارة مستقلة تضم حلب والموصل، فضلا عما اشتهرت به من مواردها وثروة مما يزيد في قوة المسلمين المادية . وقد استطاع عماد الدين زنكي أن يضع خطة للاستيلاء على حلب. واتخذ من مدينة نصيبين قاعدة عسكرية في المنطقة تكون منطلقا للهجوم على مواقع القوى المناوئة، وحاول إسقاط حكم بني ارتق الذي كان يقف عائقا آنذاك دون تحقيق هدفه الرئيسي في توحيد بلاد الموصل والجزيرة وشمالي بلاد الشام فاستولى على عدة مدن وحصون لتوسيع نواة الدولة الموحدة وتعلم كيف يحافظ عليها ضد الغزاة والطامعين واعتبر نفسه مسؤولا عن قتال الصليبيين والجهاد ضدهم واشتبك معهم في قتال مرير طيلة فترة حكمه وأصبح بذلك يمثل بطلا للمسلمين في جهادهم ضد الصليبيين ومن أجل توحيد كلمتهم كما انصرف اهتمام عماد الدين زنكي للاستيلاء على دمشق وذلك لأنها تشكيل أهمية خاصة في تجميع القوى السياسية وتحالفها للقتال ضد الصليبيين غير أن أميرها معين الدين أثر كان قد تحالف مع الصليبيين واستعان بهم مما حال دون تحقيق هدف عماد الدين زنكي في توسيع رقعة الدولة الإسلامية الموحدة مؤقتا والانصراف إلى تثبيت إمارته الجديدة وتعزيز إمكانياتها الاقتصادية والعسكرية وتوحيد ما يمكن توحيده من الإمارات والمدن الصغيرة المتناثرة المحيطة بها من جميع الجهات، حيث يشكل وجودها عائقا أمام أية خطوة يستهدف من ورائها إعلان الجهاد العام ضد الصليبيين. سار نور الدين محمود على سياسة أبيه عماد الدين زنكي في محاولاته الاستيلاء على دمشق لإتخاذها قاعدة لتوسيع دولته وتكوين الجبهة الإسلامية المتحدة بوجه الصليبيين كما سنذكره في الفصل القادم. تعرض العالم الإسلامي في بداية القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي إلى الغزو الصليبي الذي استهدف الاستيلاء على الشرق وإنشاء مؤسسات سياسية يستطيعون بواستطها أن يكرسوا احتلالهم العسكري، فأسسوا فيه إماراتهم اللاتينية الأربع في الشام وفلسطين والجزيرة الفراتية، واستمر المسلمون بعد تدعيم جبهاتهم الداخلية، غير أن هذه الجموع الغفيرة من الصليبيين الغربيين أخذت تنتظم في نهاية عام 490هـ / 1096م على شكل حملة ضخمة وراء بطرس الناسك ووالتر المفلس وهي مؤلفة من أناس من جهات عديدة ومن فئات مختلفة وقد اصطحبوا معهم زوجاتهم وأطفالهم وكانوا من مختلف المهن فبعضهم من الفلاحين وسكان المدن وصغار النبلاء وأغلبهم قطاع طرق مجرمين ولم يجمع بينهم سوى الحماس الديني بالوصول إلى الشرق والحصول على الفردوس الذي ينشدونه. ثم راح هؤلاء الصليبيون يزحفون على المناطق الإسلامية في آسيا الصغرى وقاموا بالإغارة عليها وسلبوا ونهبوا القرى القريبة من مدينة بنقية وهي عاصمة السلاجقة في عهد السلطان قلج أرسلان بن سليمان واستاقوا ما صادفوه من الماشية والأغنام وقتلوا السكان، وقد تمكن الجيش الإسلامي أن ينزل الهزيمة بكمين أعده الصليبيون ثم حاصر القلعة واستولى المسلمون على النبع الذي يزود المدينة بالمياه وكان الصليبيون يهلكون عطشاً حتى أنهم عمدوا إلى امتصاص رطوبة الأرض وشقوا عروق خيولهم ومصوا دماءها، ثم قرر الصليبيون أن يستسلموا وقد استبد بهم الكرب ثماني أيام فتحوا الأبواب للمسلمين بعد أن حصل قادتهم على وعد بالإبقاء على حياتهم فأسروا وأرسلوا بعضهم إلى إنطاكية والبعض إلى حلب وآخرين إلى خراسان. فراح المسلمون يقتربون بجيوشهم من كيفيتوت) وهو المعسكر القريب من اكسير يجوردون) عندئذ اجتمع مجلس حرب الصليبيين المكون من (والتر المفلس ورينالد برايس ووالتر بريتيل وفولك أورليان وهيوتوبنجن ووالتر تيك) وقرروا أن لا يتخذ أي قرار إلا بعد وصول بطرس الناسك، ولكن الصليبيين انشقوا على أنفسهم وقرر جفري بوريل يسانده الرأي العام في الجيش الصليبي الزحف نحو المسلمين فتحرك الصليبيون بأكملهم وبعدتهم التي تزيد على العشرين ألف رجل وعلى مسافة ثلاثة أميال وعند قرية (دراكون) نصب المسلمون كمينا لهم، بينما سار الصليبيون دون أن يلتزموا النظام واشتدت جبلتهم وضوضاؤهم وسار الفرسان في المقدمة، فانهال عليهم سيل من السهام فاصابت خيولهم فسادت بينهم الفوضى والاضطرابات وسقط الفرسان عن ظهر خيولهم فهاجمهم المسلمون وحاولوا أن يردوا عليهم، فتكبد الصليبيون كثيراً من القتلى حيث قتل منهم والتر المفلس ورينالد برايس وفولك أورليان ولم ينج منهم إلا جفري بوريل الذي أدى تهوره إلى وقوع هذه الكارثة التي حلت بالصليبيين، كما قتل أيضا عدد من قادة الصليبيين بعد هر بهم من المعركة وهم هيو توبنجن ووالترتيك وكزاد الجوت تسمرن ووالتر بريتيل ووليم بواس وهنري سفارتز ينبرج وفردريك تسمرن وردولف برانديز .