لغة كل أمة وعاء لثقافتها وحضارتها والنهر المادُّ لحياتها وإذا كان العلم والمعرفة أساس النهوض لكل أمة من الأمم؛ فإن العلم والمعرفة لن ينهضا بأمة ما لم تنهض هي بلغتها التي هي الوسيط لإبراز العلم والمعرفة إلى عالم الوجود بالفعل. واللغة – أية لغة كانت – حين تكون وسيطا لنقل العلم من عالم الأفكار والأنفس إلى الواقع لا تنقله نقلا هيكليا فحسب، وهذا هو الذي يحدث تماما عند ترجمة العلوم ونقلها من لغة إلى لغة، والسبق والابتكار إنما ينتجان عن فيض من القيم في الأذهان والأنفس تستحيل عن طريق اللغة الوسيطة – لغة الباحث – إلى أسس ونظريات ومناهج عملية قابلة للممارسة والتطبيق، فإذا لم يكن المبتكر والرائد متمكنا من زمام اللغة عارفا بأساليبها وأسرار بلاغتها وإلا ظلت المعاني عوانا في صدره، وظل ما حصله من اللغة قاصرا عن استيعاب المعاني والأفكار التي يفيض بها عقله ونفسه. هو أن تقارن بين الكتابة باللغة الأم التي تتحدث بها، حاول ذلك في الموضوع نفسه لتثبت بالبرهان العملي قدر الفرق بين الكتابتين. المقصود بالأصالة هنا هي اللغة العربية، بل الحديثَ عن غُبْنِ الباحث وغُبْنِ البحث العلمي الناتجين عن عدم البلوغ باللغة العربية إلى المقام الذي تستحقه، فإن كتابة بحث علمي – في أي علم كان – مع القصور في لغة البحث العربية؛ هو بمثابة كتابة الباحث بلغة ثانية يظل مشوبا ببعض القصور مهما كان متقنا لها، ومتى كان الباحث ضعيفا في العربية ظهرت آثار الضعف على البحث ولا بد، ولا يكون عمل المدقق والمصحح اللغوي حينئذ إلا كمن يجمل الظاهر مع بقاء الضعف في الباطن. ليس المطلوب بالطبع أن نجعل من كل طالب أبا حيان، ولا أن نشغل الطلاب بدراسة النحو وفق المناهج الجافية التي درجت عليها المدراس في بلادنا، بل اللغة العربية أشمل من ذلك وأعمق، ولا بد من تحويلها من منهج دراسي نظري صفي إلى منهج حياة، ولا بد للطالب والباحث قبل أن يخوض غمار البحث العلمي من حد أدنى من المعرفة بمفرداتها وتراكيبها والقدرة على تذوق جمالها وامتلاك آلة الوقوف على أسرار بلاغتها، وهذا لعمر الله أولى بالعناية وأهم من كثير من الموادّ الحشو التي يفرض دراستها على الطلاب في أوائل دراستهم الجامعية مما لا علاقة له بتخصصاتهم. هذه الدعوة بداهة لا تخص الباحثين في اللغة العربية وآدابها، كما لا تخص الباحثين في العلوم الإنسانية والاجتماعية أيضا، فإن اللغة العربية أفصح اللغات، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس، ولا يخفى ما يقتضيه هذا المقام من الدعوة إلى تعريب المصطلحات العلمية وإشاعة استعمالها معربة بعد تنقيحها وغربلة مضامينها وتخليصها من الشوائب التي لا تتناسب مع قيمنا وثقافتنا.