كانوا يرفعون رؤوسهم وينظرون عبر رأس المعلم إلى «اللوح» - وهو مجموعة من أخشاب شدت معاً على شكل مربع ، وصبغت يوماً بالأسود ، ويبلل طرف القلم على حافة لسانه ويكتب . وأنا على «بنك» طويل بين أربعة أو خمسة أطفال قال : «هل أحضرت معك دفترك وقلمك؟» قال : كيف تكتب إذن؟» بعد قليل دق المعلم جرساً . تكاد تقسم الساحة الصغيرة إلى قسمين . ومنه تسلقت إلى الأغصان العليا . كنا على الأقل خمسين ولداً ، رحت ركضاً إلى بيتنا ، ووجدت جدتي في الحاكورة تنظر إلى ظل شجرة اللوز الواقع على حائط البيت . لم يصل الظل إلى هذا الحجر بعد . وقالت : «أهلاً بابن المدارس!» هكذا يقول الأولاد . وأنا أربت على ظهر هذا وظهر ذاك بعد الغداء عدت إلى المدرسة ، وطرت بما اشتريت عودة إلى البيت . كان قرب باب بيتنا مصطبة حجرية طويلة ، تمددت فوقها على بطني ، وكتبت – والأسطر تهبط بي من اليمين الى اليسار . هذا يدفع ذاك بقدمه تحت «البنك» ، ويروح قلمي شاحطاً على الصفحة المفتوحة بين يدي . قلت : : «نعم . وأجال عينيه الرهيبتين في وجوه الأولاد . كان اسم رفيقي على البنك «عبده» . وأقنعني بالذهاب الى دارهم ، وعلى مقربة منها «الخشية» المبنية أيضاً من حجر خشن ، وأمامها حوش مبلط بالحجارة ، ويمتد من بوابة عتيقة اختلط فيها الصفيح الصدئ بالخشب المتأكل ، وكان من مهام أبي وبقية أفراد العائلة بين الحين والحين ، ولكنه يقلله ويحصره على الأغلب في الزوايا . وكثيراً ما كنت أستلقي على ظهري ، وحملته بين شدقيها إلى الحاكورة لتأتي عليه بطريقتها القططية . غير أنها استطاعت أخيراً أن تدفعه الى الفرار والاختفاء عن العين - عن عينها على الأقل . كانت دارنا هذه تعلوها من الخلف جدران ودور أخرى تتصاعد طبقات إلى أعلى الجبل الذي بنيت البلدة على سفحه منذ القدم . مبنية من حجارة مدقوقة منتظمة ، لها بوابة حديد صبغت ذات . وعلى اليسار جدار عال ، عند قاعدته معلف يربط عنده حمار أبيض ، بينما كانت الحمير الأخرى أقرب إلى الرمادي المسكين في لونها – وحقيبته في خرج الحمار الأحمر ، في طريقة إلى دار هذا المريض أو ذاك . لم تقسم بيني وبين هذا الطبيب أو حماره أية مودة . أردت صعود الدرج إلى البيت ، ولكنني ربما مددت يدي الى الذيل لأكف حركته عني ريثما امر . ونفذت إلى الدرجات العليا وأنا مرتعب أبكي . ولو لم أدرك أن الأمر خطير على نحو ما ، المدرسة : وهي أيضاً غرفة واحدة كبيرة بنيت قرب كنيسة حديثة التشييد ، وقص علينا قصة محزنة : كيف أن قايين المجرم قتل أخاه الطيب هابيل . ولما كنت أتصور الله وهو يجبل الطين كما يجبله عمال البناء الذين أراهم في أماكن كثيرة من بيت لحم ، تصورت وجه قايين الرهيب ، عندما أخذت مكاني على المقعد ذلك الصباح. كان أخي يوسف يكبرني بأربع سنوات، أنه ينتمي إلى عالم غير عالمي - عالم الكبار . لا يقول كلمة إلا وأفتح أذني لسماعها ، وهو أيضاً كان يذهب إلى المدرسة ، ولا أراه أحياناً بعد خروجه صباحاً إلا . عودته إلى الدار ، ويتباهى بمقدرته على قراءة ما تحتها من كلمات إنكليزية لم يكن قد جاء دوري لتعلمها . وضعت عيني اليمنى عليها وأغمضت اليسرى ، يقيمه صاحبه على قاعدة متنقلة ، وقفنا قرب الصندوق نتفرج على شكله وزينته، وألصقوا عيونهم بالعدسات ، وراح هو يدير المحور من الأعلى ، بعنتر وعبلة ، وقال لصاحب الصندوق : «أتفرجنا أنا وصاحبي بهذي
فأجابه : «أنت وصاحبك بهذي الشقفة؟» قال : «نعم ، لم يكن بين ما يرويه وبين الصور إلا أوهى العلاقة . وانتبهت أنا إلى ضخامتهما . وكان يحتوي على مطرقة ، وحجر مسن يلمع سواده بما عليه من زيت ، ثم فعل ذلك بالقطعة الأخرى . تخرج إلى الحوش لتتأكد من غليان الطنجرة» على نار الموقد ، » في هذه الأثناء انتهى أبي من عمله : وجدته يلبس قطعتي الإطارة المقوستين في قدميه ، وقال مزهواً بما صنع : «شايفة يا مريم؟ أحسن وطا!» قال : «عندما تكبر ، قلت لأخي : «أين صندوق الدنيا؟» بدناش نحكي قصة الليلة؟» قلنا جميعاً : «طبعاً ، ومعه صندوق كرتوني من صنادق الأحذية ، وعودين أحضرناهما من كومة الحطب التي تجمعه أمي وجدتي للوقود بعد ساعتين أو ثلاث كان كل شيء قد اكتمل – إلا الصور . وعندها تذكرت كتاب أخي الإنكليزي . وجئت بمقص أمي – وهي بانشغالها لا تعلم ما الذي نحن منهمكان به في الحاكورة – ورحنا نقص الصور عن كل ورقة ، وأخذنا صندوق الدنيا إلى أصحابنا نفرّجهم عليه ، «سينما ابلاش سينما بلا مصاري كنا نصيح . ولكن سرعان ما ندمنا على كرمنا . ثم تفرفط بين أيدينا . وبين أيدينا بقايا مشروعنا المحطم . وجاءني مرحاً يقول : «يلاً . وأنهضني من مكانني قائلاً : «أعلى هذا الصور؟» فصاح : «إيش؟ شو بتقول؟» وهو قوي جداً كانت مزيّة «الخشاشي (كما كنا نسمّي بيتنا ذاك) وجود الحاكورتين اللتين تحويان عدة أشجار رمان ، ودالية تحاول عبثاً الانتشار فوق المدخل المؤدّي إلى الدار فيهما قرأت أولى الكلمات ، وفي الحاكورتين غنيت أولى الأغنيات ، إضافة إلى معلمنا الوحيد في مدرسة السريان الأرثوذكس ، وفيهما بدأت أعي الفوارق بين طبائع الناس وتصرفاتهم ، ولا مواعظ قسسهم ورهبانهم . وهي تنتهي دائماً إلى عراك كنت أصر على المضي فيه إلى أن يعترف الآخرون بأنني أنا الغالب . وبينهم أخوان مشهوران بالعض . إلى شجار حقيقي ، وكنت أنشد الدفء على صدره فلا أنام إلا قربه . فاندفع الثلج أكواماً مع انفتاح الباب إلى الداخل ، ورحنا جميعاً نحمل الثلج بالأيدي ، والثلج في كل مكان إلى ما هو أعلى من الركبة؟
يبدو أن أبي كان يتوقع هجوم الثلج هذا ، إلى أن فسحنا مجالاً للخروج . وهو يصعد عينيه بقلق إلى أحطاب السقف : «أنا خايف على السقف من الانهيار . يجب أن أصعد الى السطح قبل أن يسقطه الثلج علينا . وتسلّق إلى سطح الدار ، بدفعه الى الحاكورة الجانبية ، ولم يعد إلينا إلا بعد أن أخلى السطح ، مهده أبي على شكل مدرج ليسهل صعودنا عليه . تختصر المسافة إلى الملعب كثيراً . لأنّ له كلباً ضخماً أسود ، رغماً عن كلبه الغليظ . أم يحملها إلى المزبلة القريبة ، وقد يتبرع بتقديم خدماته ، وهذا ما فعله حين جاءنا ذات يوم حاملاً نبوّته وكيسه المشؤوم ، وعيناه الصغيرتان تتجولان في أرجاء الدار : رأيت عندكم هراً كثير الحركة . وقال : كلام فارغ . أنتم لا ترونها عندما تصعد إلينا ، صغيراً بين حين وآخر» . قلنا : بارك الله في همتك . كنا نمر بدار قديمة تتألف من بيتين صغيرين بنيا على حافة الحاكورة المشرفة على الطريق ، يسكنها العم حنا ذيبان . كان أبوه يدعى إلى إحياء حفلات الأعراس اثنين أو ثلاثة - مع يؤلفون تختاً معاً : أحدهم تجار يعزف على الكمان ، ويغنون أغاني جماعية على إيقاع مناشيرهم ، وكلما مررت في طريقي إلى ملعب الدير بالعم حنا ذيبان الضرير ، وبعـزفـه وغنائه يملأ الطريق فرحاً حتى بلوغي بوابة الدير . في تلك الأثناء عاد المعلم جريس من بعد انتظار طويل من أبوي ، حتى أنه ليحوّل القداس صباح كل أحد إلى جنة صغيرة من عذوبة قرب سوق البلدية ، والغرف الأرضية منها اختنقت أبوابها ونوافذها بركام الحجارة الساقطة قبل دخول المدرسة ، كنا نلعب في غرف هذه الخرابة - وتسمى خربة الكنيسة» - بقدر ما نجرؤ على مجابهة العفن والظلام ، ونتخيل أنها ملأى بالمردة ، ويسد الطريق على من يريد دخولها. المتحدي بعد قليل مرتعباً وهو يقسم أنه رأى مارداً عملاقاً أبيض الشكل ، ينتهي بخروجي إلى النور ، بينما يكون العديد من آبائنا ، منهمكين برفع الردم على ظهورهم وبناء الكنيسة الجديدة . مؤكداً على إيقاع الكلمات : فيدور معه الآخر على إيقاع كلماتنا : وشكلها إجاصي يستدق إلى رأس مسمار براق : أدير حولها الخيط الغليظ ابتداء من طرفها الدقيقة وصعوداً نحو جسمها العريض المزيّن بدوائر ملونة ، وهكذا يفعل رفيقي بفرانته ، ثلاثة!» ويقذف كلانا بحنكته الخاصة بالفرّانة على أرض مبلطة ، توضع على نتوء في الأرض ، يكون طرف منها مرتفعاً قليلاً ، نحو الغرفة الكبيرة المتكاملة الوحيدة ، وعدد من العصي المتباينة الطول والمتانة ، وعلى اليمين واليسار منه نافذتان طويلتان ، والشرقية ترى منها عن بعد قباب كنيسة المهد ، بينهما الممشى الذي يؤدي إلى منضدة المعلّم ، كانت هناك خمسة أو ستة بنوك في كل جانب ، يتسع كل منها لخمسة طلاب وقد يجلس سبعة أو ثمانية ، ويتدرجون إلى الخلف حسب «صفوفهم» . أعلى الصفوف ، هؤلاء كان المعلم جريس يعهد للأولاد الكبار» بتلقينهم الأبجدية والصفحات الأولى من القراءة . مما جعلني أحلم لسنين عديدة بعد ذلك بأن أكون معلماً ، صفاً صفاً يتعامل المعلم مع تلاميذه : يُنزل الصف الواحد ليكون أفراده نصف دائرة على جانب من منضدته جاعلاً «أشطرهم أقربهم إليه ، ويقرأ لهم ، أنزله درجتين أو ثلاثاً على الخط ، أو قد يرسله إلى نهاية الخط ليكون الطش» ويضحك عليه الجميع ، وقد كان يوسف عن حق «أشطر» أولاد صفه ، فـيـمـا بعـد ، أكل أم لم يأكل!» وقد أقلقني ذلك ، عندما سمعناه ، كثير المرح، ووضعت أمامه بزر البطيخ المحمص ليتسلّى به ، مستبشرة ، وعندما غادرنا ، قالت أمي لأبي : «ما ألطف هذا الرجل والله لو طلب مني أن أعطيه دجاجتين حيتين من دجاجاتنا ، لفعلت! صوته إذا تكلّم يسحر اللب ، فكيف إذا رتل؟ سأبكر صباح الأحد القادم للقداس معك أخذا اللغات الثلاث بالتناول . ولكن أحد الطلاب الكبار
- وكان لطوله أقرب شكلاً إلى الرجال - واسمه جليل ، حين أمره المعلم بإعادة قراءة إحدى الجمل من كتاب القراءة العربية ، بل أمره بأن يترك مكانه وينزل الى رأس أحد المقاعد «السفلى» ، جليل! قلت لك تعال ، واندفع نحو المعلم لكي يمسك به ، فركض الولد و احتمى بالفسحة الضيقة بين الجدار والمقاعد . وانطلق الولد من زقاقه باتجاه المنضدة ، ثمن دخل بسرعة الفسحة الضيّقة بين الجدار الآخر والمقاعد ، وهو يشير إلى ابنه : «هذا الولد مش ابني ، فيكرّر المعلم بصوت رخيم مقولته التي يفرح الأب
والعصاة بين الصبية كانوا حقاً كثيرين . أو الانسراح بين الناس في سوق البلدية القريب . من أمثال حنّا أبو الحرادين . يكثّف جلد راحة اليد ويقويها ، ولكن لم يكن الصبية كلهم مثل حنا بارعين ، عندما تغمر الشمس سلاسل الحواكير ، ويهز رأسه عالياً سافلاً ، «صلى صلاتك يا حردون وكنت أنا أفرح عندما أرى الحرذون ، بعد أن يفرغ من صلاته» ، في معظمها أناشيد وتراتيل تعود إلى أزمان سحيقة في القدم ، لحنها آباء الكنيسة الأوائل في أنطاكيا ودمشق والقدس والرها ومدن وادي الرافدين ، وفق مقامات كان الشمامسة يتقنونها . يساعده في ذلك أحياناً رهبان شباب من دير مار مرقس بالقدس ، الواحد إلى اليمين والآخر إلى اليسار ، وخطوطها بالحبر الأسود بالنسبة للمتن ، يقسم الكورس إلى نصفين ، وكل نصف يلتف حول محمل ، لتكون التلاوة المرتلة بالتناوب بينهما ، والمرتلون يتحلقون حول المحمل ، وبالتالي تكون الكتابة بالنسبة لبعضهم ،