وأما في نظرة الإسلام فأمام الإنسان طبيعة تنهى إلى الله الخالق المبدع المنعم، سواء في نظرته العقلية وتفكيره أم في شعوره في حياته العملية، فتتصف نظرته باللانهائية والخلود والأخلاقية، وأن من أعظم مزايا النظرة الإسلامية الفصل شبه التام بين ما يسميه عالم الشهادة وعالم الغيب. فلكل منهما آفاقه ووسائل ادراك حوادثه ومعرفة حقائقه، ولذلك فإن نظرة الإسلام الغيبية تتضمن الإيمان بالله الخالق وبالحياة الأخرى وبذلك العالم الآخر الذي تخفى على حواسنا حوادثه وسنته بل صلاته بالعالم المحسوس. فعالم الشهادة عالم الطبيعة المحسوسة، له سننه وقوانينه التي تنظم حوادثه، وسائل لمعرفته مستعينة بالعقل (6) وهو في هذا يتفق مع النظرة العلمية التي تخضع الطبيعة وتستنتج قوانينها، وتربط حوادثها وتكتشف أسرارها. وأما عالم الغيب فطريق معرفته الاجمالية العقل. ولكنه وحده لا يستطيع أن يهتدي في مجاهله ولا بد من الاستعانة بملكة الروح في بعض الأفراد الممتازين المصطفين، وذلك هو طريق الوحي والنبوة والكشف الروحي. أن تجاوز النظرة المادية في الطبيعة والإنسان والمجتمع إلى الله الخالق القدير، الذي هو المثل الأعلى الكامل للكون والإنسان الناقصين، يرتفع بالإنسان في نظرته وسلوكه ارتفاعا كبيرا ولا سيما في خلقه وغاياته. وأن هذه النظرة التي قدمها الإسلام إلى العالم تركت آثارا عميقة في مجرى التاريخ البشري. وليست القضية أن الإسلام نقل بعض الشعوب من شكل من أشكال العبادة إلى شكل آخر، أن القضية أعمق من ذلك بكثير، فإن نظرة الإسلام إلى الوجود غيرت مجرى تاريخ الحضارة وبدلت معالمها، سواء في آفاق الحياة الفكرية أو العملية أو الاجتماعية أو غيرها. لم يقتصر هذا الانقلاب العميق على حياة الأمة العربية، التي كانت أول من تبلغ الإسلام وفهمه وتمثله وتجاوب معه، سواء منها من أسلم ومن بقي على دينه. ولقد كان شرف العرب في أنهم نقلوا هذا المفهوم الجديد الثوري إلى العالم، فعرفوا به وعرف بهم، وامتزجوا به وامتزج بهم. لقد كان للنظرة الإسلامية إلى الحياة والكون أثرها العميق الفعال في تاريخ الحضارة واتجاه مسيرها في جميع ميادين الحياة. لقد نقل الإسلام العالم من النظرة الخرافية والميتافيزيكية والمجزأة إلى النظرة الشاملة الجامعة الموضوعية والتجريبية المتنظمة في سنن وقوانين، وفتح آفاق التفكير العلمي فسار البحث العلمي في طريق جديدة، وانتقلت العلوم الطبيعية من المرحلة العقلية النظرية عند اليونان إلى المرحلة التجريبية منذ القرن الثاني للهجرة، وانتهت الكيمياء والفيزياء والفلك إلى مرحلة التجربة واكتشاف القوانين، وظهر أمثال الجاحظ وابن الهيثم والبيروني والرازي وأولاد موسى بن شاكر.