ثم فرغ بعد ذلك لاستماع القصص والأحاديث، فلما انصرف من الكتَّاب لم يذهب إلى البيت، وإنما ذهب مع جماعة من أصحابه إلى الجامع ليصلي العصر، وكان يحبُّ الذَّهاب إلى الجامع، ذهب في ذلك اليوم وصعد في المنارة، وأراد أن يعود إلى البيت، ولكنه افتقد نعْله فلم يجدها، كان قد وضعها إلى جانب المنارة، فلما فرغ من الصلاة ذهب يلتمسها فإذا هي قد سرقت. فلم يجزع ولم يُقدِّر للأمر عاقبة، وعاد إلى البيت حافيًا، وما كان أبعد المسافة بين البيت والجامع! ولكن ذلك لم يَرُعْه، فلا يحفل الشيخ بهذا الجواب، ثم يهمل الصبي حينًا ريثما يدخل فيتحدث إلى أمه وإخوته قليلًا، فإذا استقرَّ به مكانه، قال الشيخ: فاقرأ لي سورة سبأ. قال الشيخ: فاقرأ سورة فاطر، ففتح الله عليه بالآيات الأولى من هذه السورة، قال الشيخ في هدوء: قمْ واجتهد في أن تنسى نعليك كلَّ يوم، ومضى في طريقه حتى وصل إلى الكَرَار — والكرار: حجرة في البيت كانت تُدَّخرُ فيها ألوان من الطعام، مضى صاحبنا حتى وصل إلى الكرار، وانعطف إلى الزاوية التي فيها القرمة، فأخذه بيمناه وأهوى به إلى قفاه ضربًا! ثم صاح، وكانت قريبة منه لم تحفل به حينما مرَّ بها، فإذا هو واقف يضطرب والدم يسيل من قفاه! والساطور مُلقًى إلى جانبه … وما أسرع ما ألقت أمه نظرة إلى الجُرح! وما أسرع ما عرفت أنه ليس شيئًا! وما هي إلَّا أن أنهالت عليه شتمًا وتأنيبًا، ثم جذبته من إحدى يديه حتى انتهت به إلى زاوية من زوايا المطبخ، وانصرفت إلى عملها. ولبث صاحبنا في مكانه لا يتحرك ولا يتكلم ولا يبكي ولا يفكِّر كأنَّه لا شيء، لا يحفلون به ولا يلتفت هو إليهم. فخرج خزيان متعثرًا حتى انتهى إلى المنظرة، وإنما ابتدره سيِّدنا بهذا السؤال: ألم تقرأ عليَّ اليوم الأجزاء الستة من القرآن؟ قال: بلى. قال: ألم تقرأ عليَّ أمس سورة سبأ؟ قال: بلى. قال: فما بالك لم تستطع أن تقرأها اليوم؟ فلم يجب، قال سيِّدنا: فاقرأ سورة سبأ، ولكن على سيِّدنا لا على الصبيِّ، قال: وإذن فهو يذهب إلى الكتَّاب لا ليقرأ ولا ليحفظ، ولا لتُعنَى به أو تلتفت إليه، إلا كعنايتك بمشيه حافيًا أو ناعلًا! قال الشيخ: لا أصدِّق. قال سيِّدنا: أفتظن أن ما تدفع إليَّ في كل شهر أحبُّ إليَّ من امرأتي؟ أم تظن أنِّي في سبيل ما تدفع إليَّ أستحل الحرام، وأعيش مع امرأةٍ طلَّقتها ثلاثًا بين يديك؟ قال الشيخ: ذلك شيء لا شأن لي به، وظلَّ صاحبنا في مكانه لا يفكِّر في القرآن ولا فيما كان، وإنما يفكِّر في مقدرة سيِّدنا على الكذب، وفي هذا الطلاق المثلَّث الذي ألقاه كما يُلقِي سيجارته متى فرغ من تدخينها! ولم يظهر الصبيُّ في هذه الليلة على المائدة، فما زال يكلمه في دعابة وعطف ورفق، حتى أنس الصبيُّ إليه، وانطلق وجهه بعد عبوسه. وعُنى به أثناء الغداء عنايةً خاصة، لأنه أضحك منه إخوته جميعًا،