يعد أوجست كونت(Auguste Comte)[16] من أهم السوسيولوجيين الذين تبنوا منهج التفسير في دراسة الظواهر السوسيولوجية، وفق أربعة إجراءات أساسية هي: الملاحظة، أما دعوى أن المعالجة الرياضية للعلوم الاجتماعية لازمة حتى يمكن اعتبارها علوما وضعية، فتمتد جذورها إلى علماء الطبيعة. وقد كان هذا التعصب طبيعيا ومنطقيا في الوقت الذي كان فيه كل ماهو وضعي ينتمي إلى مجال الرياضيات التطبيقية، كما أن هذه الميادين الوضعية جميعا لم تكن تنطوي على ماهو غامض وتخميني، لكن هذا التعصب أصبح غير منطقي ولا مبرر له منذ ظهور العلمين الوضعيين العظيمين: الكيمياء والفيزيولوجيا، ولايقلا يقينا وضبطا عن العلوم الأخرى. فكيف نستقي المعرفة الوضعية-إذاً- في رأي كونت؟ ذكر كونت أربعة إجراءات هي: الملاحظة، وفي مجال أساليب الملاحظة لم يظهر إلا أقل تقدير للاستبطان، وقد كان كونت مدركا أن التجربة فعليا وواقعيا تكاد تكون مستحيلة في دراسة المجتمع. كما أكد إمكانية عقد المقارنات التي تعيش معا زمنا بعينه، وبين الطبقات الاجتماعية داخل المجتمع الواحد. البحث عن القوانين العامة للتغير المستمر في الفكر الإنساني، ولايشترك منهج كونت التاريخي إلا في القليل من نواحيه مع المناهج التي يستخدمها المؤرخون الذين يؤكدون العلاقات السببية بين الوقائع الملموسة، يعد كونت من رواد الوضعية (Positivisme) الذين أسسوا علم الاجتماع على أسس علمية تجريبية، اعتمادا على الملاحظة، - قانون المرحلة الدينية أو اللاهوتية: كان الإنسان، وبدأ يهتدي بالتأمل الفلسفي، وكان الفلاسفة يرجعون الطبيعة إلى أصول ومبادىء كامنة في تلك الظواهر، كتفسير ظاهرة النمو في النبات إلى قوة النماء، وظاهرة الاحتراق بإله النار. ثم الارتكان إلى المعرفة الحسية العيانية، وربط المتغيرات المستقلة بالمتغيرات التابعة ربطا سببيا، وتعد هذه المرحلة أفضل مرحلة عند أوجست كونت، وتبقى هذه الصيرورة التاريخية صيرورة نسبية وإيديولوجية؛ لأن جميع المراحل والمجتمعات الإنسانية قد أخذت بهذه الأنماط التفكيرية الثلاثة حتى لدى الشعوب القديمة. كان الفكر اللاهوتي والميتافيزيقي سائدين ومتجاورين في المجتمع جنبا إلى جنب. أو توقف المجتمع البشري عند كارل ماركس بوصوله إلى المرحلة الشيوعية. فقد ساهمت الوضعية العقلانية في ظهور فلسفات غير وضعية وغير عقلانية، هذا، وقد أسس كونت الفيزياء الاجتماعية، وفي هذا، وفيزياء حيوانية، ومازلنا في حاجة إلى نوع آخر وأخير من الفيزياء وهو الفيزياء الاجتماعية، ذلك العلم الذي يتخذ من الظواهر الاجتماعية موضوعا للدراسة باعتبار هذه الظواهر من روح الظواهر العلمية والطبيعية والكيميائية والفسيولوجية نفسها من حيث كونها موضوعا للقوانين الثابتة[18]". وقد قسم أوجست كونت علم الاجتماع إلى قسمين: قسم ستاتيكي يدرس الظواهر المجتمعية في حالتها الساكنة والثابتة والنسبية، والنظام الاقتصادي. علاوة على ذلك، وعلم الحياة، أما علم الاجتماع، فقد توصل إليها اليونانيون، ثم علم الأحياء في القرن التاسع عشر عند بيشات (Bichat) وغيره، "[19] ويلاحظ أن أوجست كونت قد صنف العلوم من المجرد(الرياضيات) إلى المحسوس العياني (علم الاجتماع). وفي هذا، يقول محمد محمد أمزيان:" مد الروح الوضعية إلى كل مجالات التفكير: الطبيعية والإنسانية، وحققت في ذلك نجاحا باهرا بعد أن أخرجها من أسر التأملات اللاهوتية والأوهام الميتافيزيقية، وتبقى الخطوة الأخيرة أن يمد هذا النظام ليعم مجال الإنسانيات، وتلك هي مهمة كونت: تحرير الدين والأخلاق والاجتماع. لتصبح في أول مرة في تاريخها علوما يقينية تخضع للملاحظة والتجربة وكشف القوانين التي تخضع لها في صيرورتها وتطورها تماما. كما تم الكشف عن القوانين التي تخضع لها العلوم الطبيعية، وبذلك سيتحقق الانسجام العقلي، "[20] وعليه، فقد جاءت وضعية أوجست كونت حلا للفوضى التي كانت تعيشها فرنسا إبان انتصار الثورة الفرنسية على الإقطاع، وعرف المجتمع انقساما وتفككا وتصدعا وفوضى عارمة. لذا، وتوظيف العلم لتحقيق أمن المجتمع وسلامته. بل استخدمه سلاحا إيديولوجيا ليس إلا. تقول وسيلة خزار:" وعلى الرغم من إيمان كونت بالمنهج الوضعي، إلا أنه لم يلتزم أساسياته، فقد حاول إقصاء الجماهير عن إدارة المجتمع وتنظيمه، على أساس أن هذه الوظيفة هي وظيفة علماء الاجتماع وخبراء التنظيم؛ يتبين لنا أن وضعية كونت، بيد أنها تقبل الإصلاح. والإيجاب هنا يعني قبول الأوضاع الراهنة، فلقد اهتمت الوضعية، عند أوجست كونت، بالتوقف عند العلاقات الثابتة بين الوقائع والظواهر، بغية استخلاص قوانينها وقواعدها النظرية والتطبيقية. ومن ثم، يمكن القول بأن أوجست كونت يعد من أهم مؤسسي علم الاجتماع الوضعي، ومن السباقين إلى الأخذ بمنهج التفسير في دراسة الظواهر المجتمعية، والتاريخ. يعد إميل دوركايم (Emile Durkheim)[23] من مؤسسي علم الاجتماع في الثقافة الغربية. ومن ثم، كما يظهر ذلك جليا في كتابه (قواعد المنهج في علم الاجتماع). ومن ثم، يمكن إخضاعها للملاحظة الخارجية. يقول دروكايم: " إن الظواهر الاجتماعية تشكل أشياء، لأن كل ما يعطي لنا أو يفرض نفسه على الملاحظة يعتبر في عداد الأشياء. في انفصال تام عن الأفراد الواعين الذين يتمثلونها فكريا، إن هذه القاعدة تنطبق على الواقع الاجتماعي برمته وبدون استثناء. "[24] والقاعدة الثانية أن يتحرر عالم الاجتماع بصفة مطردة من كل فكرة سابقة، وتصنيفها، والإلزام. بملاحظتها خارجيا، بعيدا عن العوامل الفردية والسيكولوجية. والقاعدة الخامسة هي التفريق بين الظواهر المجتمعية السليمة وبين الظواهر المجتمعية المعتلة. والقاعدة السادسة هي تصنيف المجتمعات من حيث البنية والوظيفة. وقد تبنى دوركايم منهج التفسير في دراسة الظواهر المجتمعية، بالتشديد على العلاقة السببية بين الظواهر المرصودة. وفي هذا، يقول دوركايم: " فكل ما يطالب به هذا العلم هو أن يعترف الناس بأن قانون السببية يصدق أيضا على الظواهر الاجتماعية. ولكن علم الاجتماع لايقرر هذا القانون على أنه ضرورة منطقية؛ بل يقرره فقط على أنه فرض تجريبي أدى إليه استقراء مشروع. فإنه لما ثبت صدق قانون السببية في نواحي الطبيعة الأخرى، ومن هذا العالم الأخير إلى العالم النفسي حق لنا التسليم بأنه يصدق أيضا على العالم الاجتماعي. إن طريقتنا طريقة موضوعية. وذلك لأنها تقوم بأسرها على أساس الفكرة القائلة بأن الظواهر الاجتماعية أشياء، ولاشك في أن مذهب كل من سبنسر وأوجست كونت يقوم على أساس هذه الفكرة نفسها. على إبعاد الذاتية، والتخلص من الأفكار الشائعة بنقدها وغربلتها علميا وموضوعيا. وفي هذا، يقول دوركايم:"إن القاعدة التي ننطلق منها لاتفترض أي تصور ميتافيزيقي، إن ما تطلبه هو أن يضع عالم الاجتماع نفسه في وضع فكري شبيه بالوضع الذي يكون عليه الفيزيائيون والكيميائيون والفيزيولوجيون، وهو يحاول النفاذ إلى المجتمع أن يعي بأنه ينفذ إلى عالم مجهول. أن يشعر بأنه، أيضا، "[26] يقوم التصور الوضعي عند دوركايم على التخلص من الخطاب التأملي الذاتي والفلسفي، وتبني مناهج العلوم الطبيعية المبنية على التجريب، والملاحظة الخارجية الدقيقة، والمقارنة العلمية (التجربة غير المباشرة)، أو الارتكان إلى الخطوات المنهجية التالية: التعريف بموضوع الدراسة، وعليه، وينطلق من مشكلات اجتماعية، والاستعانة بالتجريب التكراري والترابطي، واستثمار الإحصاء الرياضي، واستخلاص القوانين والنظريات. وفي هذا، يقول السوسيولوجي الفرنسي كلود بابييه (Jean Claude Babier):" إن السوسيولوجيا هي علم، لأن من يمارسون البحث السوسيولوجي يسعون إلى القيام به بروح علمية. فالسوسيولوجيا تسعى إلى تحديد الثوابت والقواعد التي تتمفصل ضمن نظريات أو أبنية نظرية. وذلك من أجل كشف الظواهر الاجتماعية الي تقدم نفسها لعلماء الاجتماع ولمعاصريهم، فالمظهر الأول للعمل الاجتماعي هو، إذاً، أي على جملة من القضايا الأساسية غير مبرهن عليها، وتحدد هذه المسلمات، بدورها، نموذجا نظريا. "[27] في كتابه (الانتحار)[28]، من نتيجة أساسية، وهي أن الانتحار ليست ظاهرة نفسية أو عضوية، بل هي ظاهرة مجتمعية، مرتبطة بتقسيم العمل في المجتمع الرأسمالي الصناعي. وبالتالي، يتحدد معدل الانتحار بحسب درجة اندماج الأفراد في الجماعة، والعلاقة بينهما علاقة علية أو سببية. فاعتبرها ظاهرة اجتماعية، وقد توصل في كتابه إلى أن التدين ظاهرة جماعية؛ ومن ثم، وبالتالي، ويعني هذا أن المجتمع هو الذي يولد طبيعة التفكير الديني لدى الفرد. ومن ثم، فالدين هو مجموعة من المعتقدات والممارسات المرتبطة بالمقدس، وتتميز بطابعها الروحاني المجرد. وقبائل الهنود الحمر بأمريكا. ومن ثم، والذي يتمثل في المقدس أو الطاقة العقائدية التي تسمى بالمانا. ويعني هذا كله أن المعبود والمقدس هو المجتمع. وفي هذا، يقول محمد محمد أمزيان:" لقد رفض دوركايم الانطلاق من كل فكرة مسبقة في دراسة الظاهرة الدينية. فالوضعية العلمية تقتضي تطبيق القواعد المنهجية الصارمة. ولذلك، فهو لايرى سبيلا إلى الدراسة الموضوعية للظاهرة الدينية إلا بالتعرف على أشكالها الأولية وكيفية نشأتها عند الشعوب البدائية، لقد اتجه دوركايم إلى العشائر الأسترالية باعتبارها شعوبا بدائية تمثل صورة المجتمع البدائي الذي لايزال يحتفظ بالمظاهر الدينية الأولى، وقد اعتقد دوركايم أنه وجد الصورة الأولى للنظام الديني في عبادة الطوطم، وهو رمز تتخذه الجماعة أو العشيرة لنفسها، ولهذا فحينما تتجه العشيرة بالعبادة نحو الطوطم، فهي تتجه في الواقع عن طريقه إلى العشيرة نفسها أي عبادة نفسها، فالمجتمع هو المعبود، والعاطفة الدينية مجرد صورة مجسدة من العاطفة الاجتماعية. لقد قدم دوركايم أدلة على صحة استدلالاته، فهو الذي يجرنا إلى خارج أنفسنا، ويلزمنا بالتوافق مع مصالح أخرى غير مصالحنا، وهو الذي علمنا كيف نسيطر على شهواتنا وغرائزنا، "[30] وذلك كطريق وحيد للوقوف على حقيقتها وأصولها وكيفية تطورها. "[31] فتتمثل في الحفاظ على الواقع الوضعي العلماني، ومحاربة اللاهوت باسم العلم والتجريب والعقل. وفي هذا، يقول محمد محمد أمزيان:" أما دوركايم، فهو دخل في صراع حاد مع النظام الديني، ولكنه كان صراعا عمليا أكثر منه نظريا، وهو يحتمي في كل ذلك بالعلمية والتطبيق الصارم للقوانين الاجتماعية التي لاتقبل النقض. فما كان يقرره دوركايم ليس مجرد إحساسات للقوانين الاجتماعية التي لاتقبل النقض. فما كان يقرره دوركايم ليس مجرد إحساسات أو خواطر، وإنه أراد في نهاية الأمر أن يقلب الأدوار وتجد في علم الاجتماع التفسير الوحيد لعلم اللاهوت والفلسفة. تفصل الدين عن الدولة، كما تفصله عن العلم. أي: لم يكن دوركايم يولي الدين أو الأخلاق أو القيم أية أهمية في دراسة المجتمع وظواهره المختلفة. وخلاصة القول،