الفصل الثاني: وسائل الإثبات الحديثة عرفت الجريمة في الوقت الحاضر تطورا مبتكرا في أساليبها وتنظيمها، حيث أصبحت منظمة تنظيما محكما بواسطة تقنيات جد متطورة ، لهذا تميزت الجريمة المعاصرة بسمات خاصة ميزت بينها وبين أنماط الجريمة التقليدية ، فأصبح من الضروري أن يعاد النظر في الوسائل والأساليب القديمة التي كثيرا ما كشفت عن قصورها وعدم نجاعتها في الكشف عن مرتكبي الجرائم ، والعمل قدر الإمكان على الإستفادة من معطيات العلوم الحديثة ،وفي ذات الوقت ، كشف التقدم التكنولوجي والتطور العلمي عن حدوث الكثير من التغيرات والتطورات الهامة في مجال البحث عن مرتكبي الجرائم الذين يحرصون دائما على طمس معالم الجريمة، وذلك بإستخدام التقنيات العالية والوسائل الفنية المتطورة التي فاقت بعض الأحيان إمكانات الأجهزة المعنية بمكافحة الجريمة ذاتها مما ضاعف صعوبة كشفها ، فأصبحت هناك تعددية في تقنيات الكشف عن الجريمة بطرق علمية ووسائل مستحدثة ، فإستفادت وسائل الإثبات الجنائي من التطورات العلمية والتكنولوجية ، خاصة من واقع الأثار المادية المختلفة في مسرح الجريمة كأثار البصمات ، إلخ ، و قبل التطرق لهاته الوسائل الحديثة للإثبات وجب علينا التطرق للدليل العلمي و الذي هو أساس هاته الأدلة .المبحث الاول: ماهية الدليل العلميإن إيذاء الآخرين والتعدي عليهم وعدم إحترام القوانين سلوكيات تبدر من بعض أفراد المجتمع لأسباب مختلفة تؤثر فيهم ، وتجعلهم يرتكبونها بطرق وأساليب يصعب إكتشافها ، لذلك إعتمدت السلطات المختصة على نظام الإثبات بالأدلة العلمية وهي الأدلة التي تكون نتاج إستخدام الخبرة والوسائل العلمية الحديثة على الأثار المختلفة في مسرح الجريمة لذلك كان لزاما علينا محاولة تبيين مفهوم الدليل العلمي في الإثبات و خصائصه بالإضافة لمختلف أصنافه من خلال ما سنتناوله.المطلب الأول : مفهوم الدليل العلمييكتسي الدليل العلمي أهمية بالغة، بالنظر إلى المرحلة المبكرة التي يُجمع فيها (مباشرة بعد وقوع الجريمة) ، ونظرا للطابع المؤقت لبعض الأدلة القابلة للزوال أو التغير بالزمن ، كما يساعد الدليل العلمي على إثبات وقوع الجريمة ومعرفة ظروف وقوعها ، وكذا على إثبات نسبتها إلى شخص أو نفيها عنه، إضافة إلى تحديد هوية الضحية في بعض الحالات. دَلالةً ، عيَّن له المكانَ . والدليل هو ما يعبر عن شيءٍ، وما يمكّن من وجود شيء آخر مرتبط به. 2- التعريف الفقهي:ومعنى الدليل فقها هو الواقعة التي يستمد منها القاضي البرهان على إثبات اقتناعه بالحكم الذي ينتهي إليه ويعرفه فقهاء القانون بأنه : كل وسيلة تسمح بتأكيد وجود أو عدم وجود واقعة معينة، وعرفه البعض أنه كل ما يمكن الوصول من خلاله إلى معرفة الحقيقة.والأدلة هي السبيل لتكوين القناعة لدى القاضي الجزائي ، الذي يحكم وفق قناعته كما هو مقرر قانونا، والدليل بمختلف أنواعه له دور هام في الدعوى الجزائية في إثبات الجريمة أو نفيها ، كما أنه هو الذي ينبعث من رأي خبير فني بناءا على معايير تدور حول تقدير دليل مادي أو قولي قائم في الدعوى فهي تقدير لواقعة معينة بناءا على معايير فنية.3- التعريف الإصطلاحي القانوني : "الدليل هو الوسيلة التي يستعين بها المحقق للوصول إلى الحقيقة التي ينشدها ، والمقصود بالحقيقة في هذا الصدد هو كل ما يتعلق بالوقائع المعروضة عليه لإعمال حكم القانون عليها".و يعرف بأنه: " النشاط الإجرائي الحالي والمباشر من أجل الحصول على اليقين القضائي وفقا لمبدأ الحقيقة المادية وذلك ببعث أو تأكيد الاتهام أو نفيه".ويعرف الدليل" هو الواقعة التي يستمد منها القاضي البرهان على إثبات إقتناعه بالحكم الذي ينتهي إليه، إما بتحقيق حالة اليقين لدى القاضي قيحكم بالإدانة أو ترجيح موقف الشك لديه فيحكم بالبراءة ، والمحور في ذلك كله هو الدليل الجنائي" المطلب الثاني: خصائص الدليل العلميأولا- ثبات وإستقرار الأساليب العلمية:عنصر الثبات والإستقرار المتأتي من ثبات الأصول العلمية بإعتبار أن الدليل العلمي يستند إلى النظريات والأسس العلمية المستقرة والتي أجمعت عليها الدوائر والمراكز العلمية المتخصصة وأقرتها الندوات والمؤتمرات الدولية بلا تعارض بينها، وينتج على وحدة الأساليب العلمية في التعامل مع الأثار المادية بثبات وإستقرار النتائج بلا إختلاف يذكر بينها مهما إختلفت المواقع ، كتحليل الدم أو السوائل المنوية ، هذا بخلاف الأدلة المعنوية التي قد تتفاوت فيما بينها تفاوتا كبيرا بتعدد مصادرها البشرية على الواقعة الواحدة لتباين الأوعية النفسية وإختلاف الإدراكات بشأنها.ثانيا - عمق ودقة نتائج فحص الآثار المادية بالموازين العلمية: فالموجات الضوئية والصوتية لا يحس الإنسان منها إلا ما هو في نطاق أطوال معينة ، بحيث لا يدرك ما دونها أو أعلى منها إلا بالأجهزة العلمية والأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية والرادار التي تكشف وتوضح مالا تدركه الحواس مباشرة ، والتحاليل بالوسائل الكيميائية والطبيعية للمواد المجهرية سواء كانت سامة أو مخدرة أو دماء أو سوائل منوية تكشف عن طبيعتها وخواصها حتى إذا كانت كمياتها ضئيلة غير محسوسة ، أي في المسائل التي قد يحدث فيها التقدير.ثالثا - الحياد والأمانة :يتحقق الحياد والأمانة بتوافر مقومات الأهلية العامة والخاصة لدى الخبراء الذين يقدمون الأدلة العلمية من خلال التقارير التي يعدونها ، ويرجع ذلك لثلاثة عوامل:  عدم وجود صلة بين الخبير الفني وبين أطراف الخصومة أو حتى المجتمع المحلي لمكان الحادث حتى يكون له موقف خاص بشأنها يدفعه للتحيز أو التجني أو المجاملة؛ إن الخبير الفني وهو موظف عام أساسا لا يتم إختباره وتعيينه في هذه الوظائف الهامة إلا وفق شروط بالغة الدقة ، تتحقق من خلالها نزاهته وأمانته وعفة نفسه بحيث يكون محلا للثقة ، هذا بجانب توافر الأهلية الخاصة التي تتحقق بمقتضاها كفاءته العلمية والعملية وخبراته الفنية؛ من خلال الواقع العملي فإن الخبير لا ينفرد تماما برأيه ، إذ يخضع عمله إلى رقابة إدارية من قبل رؤسائه ورقابة قضائية من قبل القاضي ، فيجب أن يستوي رأيه واللزوم العقلي والأمانة، أو يأتي بما يناقض الواقع أو أساليب الإثبات المستقرة أو إغفال أحد العناصر الجوهرية للتقرير الفني." رابعا - خروج الدليل العلمي عن إستئثار وتحكم الجاني :يحرص الجاني عند إرتكابه الجريمة على رسم خطط تنفيذها و ألا يتيح الفرصة لظهور الأدلة التي تكشف شخصيته أو تدينه سواء كانت أدلة معنوية أو علمية ، فعناصر الأدلة العلمية هنا تخرج عن إستئثار الجاني وتحكمه ومحاولات التأثير عليها ، إذ أنها تبنى على الأثار والمخلفات التي تترك في مسرح الحادث ، وتشكل الآثار الخفية جانبا منها ، والتي غالبا ما يغفل الجاني عنها في ظروف إرتباكه الجريمة، أما الفحص الفني لهذه الأثار والمخلفات فيتم بإحالتها إلى جهات خبرة غير معلومة عادة لديه وليس له بالخبراء المكلفين بالمهمة أي صلة، وبالتالي لا يستطيع أن يمارس وسائل الضغوط والإغراء التي يمارسها على الشهود مثلا فيجد الباب إلى ذلك موصدا .خامسا - تطور الدليل العلمي بتطور العلوم: كما يمتاز الدليل العلمي أيضا بعدم تعارضه مع نفسه والوحدة المرحلية في إستخلاصه، وأيضا فهو يتطور بتطور العلوم، وذلك ما سنوضحه في هذا العنصر كما يلي:رغم التطور العلمي والتقني الحاصل إلا أنه لا يمكن القول بالحجية المطلقة والقاطعة لهذه القرائن وهذا لأن الخطأ دائما محتمل ووارد، لذلك فإنه لابد أن يتعامل المحقق مع المخابر المختصة ويقوم بتبادل الخبرات معها كون أنه لا يمكن له الإلمام بجميع الميادين فمهما بلغت معارفه فهو يبقى محدودا في المجال العلمي والتقني ،و قد تظهر أساليب علمية جديدة تتمخض عنها الأبحاث الجارية دون توقف فتجعل ما هو متعذر في الآونة الراهنة ميسرا في المستقبل القريب أو البعيد، إذ لا يوجد للتقدم العلمي حدود يقف عندها على سبيل المثال فقد اقتصرت أبحاث الدم فيما مضى على معرفة أنواع الفصائل، وأخيرا وليس آخرا أمكن للأوساط العلمية في المجال الجنائي من إستخلاص بصمة الحمض النووي (البصمة الوراثية ) كي تحمل الشفرة الوراثية التي يمكن من خلالها نسبة العينة إلى مصدرها في جرائم القتل والاغتصاب وإثبات البنوة والقرابة والتعرف على الجثث المجهولة ، المطلب الثالث: تصنيف أدلة الإثبات العلمية:إذا كانت الوسائل والنظريات والأصول العلمية تعتمد في تعاملها مع الأدلة المادية على المقومات الشخصية للمشتبه فيهم فإن التمييز بين الأدلة العلمية القاطعة في دلالتها وتلك غير القاطعة في دلالتها إنما يعتمد على مدى تفرد تلك العناصر الشخصية وثباتها وعدم تكرارها بين شخصين، وبعبارة أخرى فإن قوة إسناد الدليل الجنائي هو الفيصل بين كلا النوعين من الأدلة العلمية.أولا - تصنيف الأدلة العلمية من حيث المصدر :تقسم الأدلة الجنائية عند اعتماد هذا المعيار إلى أدلة علمية مباشرة، وأخرى غير مباشرة كما يلي:هي الأدلة التي تنصب على الجريمة مباشرة وتتصل بها وتؤدي في مضمونها إلى يقين فيلتزم بها القاضي ويعتمدها ، وهي جميع الأدلة ما عدى القرائن، تشمل الشهادة والاعتراف، ويستمد الدليل المباشر قوته في الاثبات من ذاته، بمعنى أنه يتيح العلم بالوقائع المراد إثباتها بمجرد الحصول عليه بالضمانات المقررة في القانون. 2- الأدلة غير المباشرة : ومنها الأدلة المتحصل عليها بالطرق والوسائل العلمية من واقع الآثار التي تتخلف في مسرح الجريمة، أي التي تنبعث من الخبرة الفنية بالأساليب العلمية والمعملية، وتتمثل في القرائن ، وعلى المحقق أن يعمل عقله فيستنبط من الواقعة التي انصب الدليل عليها الواقعة الأخرى التي يراد إثباتها، فلا يكفي لفهمها مجرد الملاحظة، وإنما لا بد من العملية العقلية القائمة على الإستنباط فيستخلص مما ورد عليه الدليل واقعة لم يرد عليها دليل مباشر .ثانيا - تصنيف الأدلة العلمية من حيث الحجية :يقصد بها تلك الأدلة التي ينعقد بها الجزم واليقين لدى المحقق لا الظن والإحتمال، أو بمعنى آخر تلك الأدلة التي يمكن للمحقق أن يستند إليها بمفردها للربط بين المتهم والجريمة التي وقعت دون الحاجة إلى تعزيزها بأدلة أخرى ، وتستمد هذه الأدلة قوتها في الاثبات الجنائي من التقدم التقني والفني للأجهزة العلمية الحديثة التي تعاملت مع الدليل الجنائي فربطت أو نفت العلاقة بين الجريمة والمتهم. الدليل المادي هو ما يستفاد من الأثر المادي ويتحقق به الثبات والذي يشمل كل ما تعثر عليه الشرطة أو المحقق الجنائي، أو يدرك بإحدى الحواس أو بواسطة الأجهزة العلمية أو المحاليل، سواء كان جسماً ذا حجم مثل آلة حادة، جزء من ملابس ،مقذوفاً نارياً. أو لوناً مثل بقع دموية، أصباغ .الخ. أو شكلاً، مثل بصمات الأصابع، آثار الحبال حول الرقبة (كما في الخنق والشنق)، أو هو قيمة الأثر المادي التي تنشأ بعد ضبطه وفحصه فنياً ومعملياً.2. الأدلة العلمية المعنوية:الأدلة المعنوية أو كما تسمى بالأدلة القولية أو الكتابية أي التي تصل إلى علم المحقق عن طريق روايتها على لسان الغير بأن يتم سردها إما بالكلام أو بإستخدام الكتابة وهو يتلقاها عن طريق سماعها أو قراءتها . وتوضيح ذلك كما يلي:1. الأدلة العلمية الظاهرة :تلك التي يمكن للمحقق أن يدركها بالعين المجردة دون الإستعانة بالوسائل العلمية التي يمكنها إظهارها ، ولا عبرة بحجم هذه الآثار سواء كانت صغيرة أم كبيرة، فقد تكون صلبة كطلق ناري أو مسدس، أو قطعة من الخشب أو الزجاج وقد تكون سائلة كمادة ملتهبة كالبترول أو مشتقاته أو غيرها، وقد تكون لينة أو لزجة كالبقع الدموية والمنوية والمأكولات،