لابد من اجتهاد معاصر منضبطسابعاً: إن التشريع الإسلامي المنشود هو الذي يقوم على أساس اجتهاد عصري سليم، سواء أكان اجتهاداً انتقائياً أم إنشائياً. وقد تحدثت عن معالم هذا الاجتهاد وضوابطه في مجال آخر. ولكن لا بد لي أن أحذر هنا من فئتين من الناس: فئة الذين يريدون أن يطوعوا الإسلام للعصر، ويجعلوه عجنية لينة قابلة للتشكيل في أي صورة، ولا يريدون أن يقفوا عند قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، كالذين يحاولون اليوم تحليل فوائد البنوك مع اتفاق كل المجامع والمؤتمرات العلمية الإسلامية على تحريمها. وفئة الذين يريدون أن يجمدوا الإسلام في قوالب حجرية،وهؤلاء نوعان:1. مذهبيون مقلدون متعصبون لمذاهبهم لا يرون الخروج منها قيد شعرة،وهؤلاء وأولئك هم الذين يشهرون سيف الإرهاب على كل عالم رأى رأيا جديداً أو مخالفاً لمن كان قبله، الذين قضوا أعمارهم سباحين وغواصين في بحار العلوم الإسلامية، وكان لهم إنتاجهم وشهرتهم التي طبقت الآفاق.اجتهاد لا فوضى وتجديد لا تبديد:إن الدعوة إلى الاجتهاد لعصرنا لا تعني الفوضى، وفتح الباب على مصراعيه لكل مدع متطاول، إن بعض دعاة "التجديد" أو "التطور"، يريدون أن يطوروا الإسلام ذاته حتى يوافق أهواءهم {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} (المؤمنون:71)، وأهواؤهم إنما كونتها المعارف التي تسولوها من موائد الثقافة الغربية، مع معرفة ضحلة أو مشوشة بالإسلام، أو جهل مطبق به في بعض الأحيان.فهم لهذا لا يفرقون بين الجانب الذي له صفة الثبات والخلود في أحكام الإسلام وتوجيهاته، والجانب المرن المتطور الذي يتغير بتغير الزمان والمكان والحال. وتغيرت البيئة، وتغيرت الأشخاص كان الواجب عليهم أن ينشئوا فقهاً جديدا يمثلهم وبعبر عنهم زماناً ومكاناً وحالاً.وهذا صحيح بالنظر إلى جزئيات الأقوال والآراء التي قال بها الفقهاء في شتى مجالات الاجتهاد. ولكنه ليس صحيحاً بالنسبة إلى مجموع الفقه، الذي يمثل ثروة تشريعية ضخمة شاركت في إنشائها وتنميتها شوامخ العقول الإسلامية، ابتداء من الصحابة فمن بعدهم على توالى القرون، مهتدين بالقرآن الكريم والسنة المطهرة.ولا أعرف - ولا أحسب أحداً يعرف - أمة من الأمم طرحت تراثها القانوني الوضعي وراءها ظهرياً، وبدأت من الصفر تشرع ليومها وغدها، دون أن تستفيد من روائع أمسها، فكيف بتراث فقهي أساسه رباني؟ ولو أننا سلمنا لهؤلاء،وجدناهم يقفزون قفزة أخرى، يردون بها رفض السنة النبوية، التي هي بيان القرآن النظري وشرحه العملي، وقد أوجب الله طاعته وطاعة رسوله جميعاً: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النور:54)، وجعل طاعة رسوله من طاعته: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء:80).ولا عجب أن نجد فيهم من يدعو إلى الاكتفاء بالقرآن، وهي جمهرة السنة. وعليها مدار السنة. وجهل هؤلاء أنهم بهذا يخالفون القرآن نفسه، وينكرون المعلوم من الدين بالضرورة. فإذا تنازلنا لهؤلاء - على سبيل الافتراض - وقبلنا كلامهم المردود عن السنة، فسرعان ما نجدهم يخطون خطوة أخرى أجرأ وأوقح، وهي التطاول على القرآن نفسه، وعلى أحكام القرآن الثابتة القطعية. ويحرم الحلال، كل ذلك بدعوى التطور والتجديد والمحافظة على روح الإسلام لا شكله!إن واحداً من هؤلاء القوالين المتقولين - ممن فتحت لهم بعض الصحف والمجلات ذراعيها ليكتب ما يشاء - يقول في تبجح: "إن القرآن لم ينزل لتنظيم عصر الفضاء! بل لتنظيم مجتمع بدائي جاهلي" إنه يتهم الله الجليل بقصور العلم، وإنه لم يكن يعلم ماذا تكون عليه مخلوقاته بعد مدة من الزمن. وآخر يقول: إن آية: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا}، وفيها كل متاعه وحياته!! ولو كان عند هذا المدعي شئ من المعرفة بتاريخ العرب في عصر النبوة لعلم أن النوق لم تكن تسرق في ذلك العهد، بل كانت تترك ولا تلتقط إذا وجدت في البرية، فمعها حذاؤها وسقاؤها.