قال : فلما انصرفت حدثت أبي، واعلم أن سبب الشبهة في ذلك أنه قد جرى في العرف أن يقال : " ما كاد يفعل " و " لم يكد يفعل " : في فعل قد فعل على معنى أنه لم يفعل إلا بعد الجهد، فلما كان مجيء النفي في " كاد " على هذا السبيل توهم ابن شبرمة أنه إذا قال : لم يكد رسيس الهوى من حب مية يبرح، فإن الذي يقتضيه اللفظ إذا قيل : " لم يكد يفعل " و " ما كاد يفعل " أن يكون المراد أن الفعل لم يكن من أصله ولا قارب أن يكون، وكيف بالشك في ذلك؟ وقد علمنا أن " كاد " موضوع لأن يدل على شدة قرب الفعل من الوقوع، وأن يكون قولك : [ ص: 276 ] " ما قارب أن يفعل " : مقتضيا على البت أنه قد فعل . وإذ قد ثبت ذلك فمن سبيلك أن تنظر فمتى لم يكن المعنى على أنه قد كانت هناك صورة تقتضي أن لا يكون الفعل، وتجعل المعنى على أنك تزعم أن الفعل لم يقارب أن يكون فضلا عن أن يكون. وينبغي أن تعلم أنهم إنما قالوا في التفسير : " لم يرها ولم يكد " فبدأوا فنفوا الرؤية ثم عطفوا " لم يكد " عليه، ليعلموك أن ليس سبيل " لم يكد " هاهنا سبيل " ما كادوا " في قوله تعالى : « فذبحوها وما كادوا يفعلون » [ سورة البقرة : 71 ] في أنه نفي معقب على إثبات، وأن ليس المعنى على أن رؤية كانت من بعد أن كادت لا تكون، ولو كان " لم يكد " يوجب وجود الفعل لكان هذا الكلام منهم محالا جاريا مجرى أن تقول : لم يرها ورآها فاعرفه. وذلك أنا إذا تأملنا وجدنا إعمال الفعل في " كل " والفعل منفي لا يصلح أن يكون إلا حيث يراد أن بعضا كان وبعضا لم يكن . تقول : " لم ألق كل القوم " و " لم آخذ كل الدراهم " فيكون المعنى أنك لقيت بعضا من القوم ولم تلق الجميع " وأخذت بعضا من الدراهم وتركت الباقي . ولا يكون أن تريد أنك لم تلق واحدا من القوم ولم تأخذ شيئا من الدراهم وتعرف ذلك بأن تنظر إلى " كل " في الإثبات وتتعرف فائدته فيه . تفسير ذلك أنك إنما قلت : جاءني القوم كلهم لأنك لو قلت : جاءني القوم وسكت لكان يجوز أن يتوهم السامع أنه قد تخلف عنك [ ص: 279 ] بعضهم، إلا أنك لم تعتد بهم أو أنك جعلت الفعل إذا وقع من بعض القوم، لكونهم في حكم الشخص الواحد كما يقال للقبيلة : " فعلتم وصنعتم "، وهكذا الحكم أبدا فإذا قلت : رأيت القوم كلهم و " مررت بالقوم كلهم " كنت قد جئت " بكل " لئلا يتوهم أنه قد بقي عليك من لم تره ولم تمرر به وينبغي أن يعلم أنا لا نعني بقولنا : " يفيد الشمول " أن سبيله في ذلك سبيل الشيء يوجب المعنى من أصله وأنه لولا مكان " كل " لما عقل الشمول ولم يكن فيما سبق من اللفظ دليل عليه . وإذ قد عرفت ذلك فها هنا أصل وهو أنه من حكم النفي إذا دخل على كلام، ثم كان في ذلك الكلام تقييد على وجه من الوجوه أن يتوجه إلى ذلك التقييد، تفسير ذلك أنك إذا قلت : أتاني القوم مجتمعين . فقال قائل : لم يأتك القوم مجتمعين . حتى أنه إن أراد أن ينفي الإتيان من أصله كان من سبيله أن يقول : " إنهم لم يأتوك أصلا " فما معنى قولك " مجتمعين " هذا مما لا يشك فيه عاقل .