هذا وقد بلغ اهتمام عبد الملك بشئون البريد وتصريفه حدا جعله يوصى حاجبه بالا يمنع عامل البريد من الدخول عليه ليلا أو نهارًا؛ لأنَّ عدم دخوله ساعة قد يفسد أعمال الولاية إدراكًا منه بأهمية البريد دونًا عن سائر النظم الإدارية الأخرى(1). سار الوليد بن عبد الملك على نهج والده في العناية بالبريد، ولكنه لم يكتف بما كان عليه البريد أيام والده من نقل الأخبار، ليصفح جدران المسجد الجامع بها (2) وحينما جلس عمر بن عبد العزيز على كرسي الخلافة، أضاف إلى نظام البريد نفحة من نفحاته؛ فمنع عمال البريد من ضرب بغال البريد بالأسواط التي تنتهى أطرافها بقطعة حديد، وألا يُعلّق بها اللجم الثقال، وهذا ليس بالأمر الغريب على رجل مثل عمر بن عبد العزيز، الذي بلغ ازدهار البريد في عهده حدًّا جعله يرسله إلى المدينة المنورة ليلقى السلام على قبر الرسول (صلى الله عليه وسلم)(3). حيث أفردوا له ديوانًا كبيرًا في بغداد، وقد اقتصر عمله على أعمال الدولة فقط، والذى أوصل ديوان البريد إلى تلك المكانة، وأعطاه تلك الأهمية هو الخليفة أبو جعفر المنصور - ثاني خلفاء بني العباس- الذي أكد في أحد أقواله بأَنَّ مُلكه لا يصلح ولا يستقيم ولا تقم له قائمة إلا بنظام البريد؛ وحينما أتى ذكر الرابع عض على إصبعه السبابة ثلاث مرات وفي كل مرة يقول : آه آه آه، ثم بلغ شغف الخلفاء العباسيين بالبريد ذروته إلى درجة جعلت أحدهم يصدر أمرًا بأن حيث كان يهرع إلى شرفته عند مروره، وكانوا آنذاك يستعملون أبواقًا ؛ كما كان يقول متفاخرا: "إنَّ صوت البريد لأنني ألذ من الكرى لعيني"(2). وإقامة المنازل على امتدادها لراحة ناقلي البريد وتغيير خيولهم ؛ حتى صارت جميع الطرق تؤدّى إلى بغداد عاصمة الخلافة، تماما مثلما كانت جميع الطرق تؤدى إلى روما (3). استمر البريد في مواصلة نشاطه على قدم وساق إلى أن تم قطعه على يد البويهيين منتصف القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي؛ حتى يتسنى لهم إخفاء أخبارهم وحركاتهم عن الخليفة في بغداد، بعد أن كان نظام البريد - قبل ذلك يمكّنه من أخذهم على غِرَّة (1)، تبع انتقال حكم الفاطميين من بلاد المغرب إلى مصر تمتع الأخيرة بكثير من النُّظم الإدارية ذات الطابع المصري الخالص، ولدوره الفعّال في الربط بين تلك الأجزاء المترامية الأطراف ومركز الخلافة، وقد اعتمدوا على الحمام الزاجل بوصفه وسيلة سريعة من وسائل نقل الرسائل لإخبارهم بكل ما يدور في أرجاء دولتهم الشاسعة من أحداث، وبالغوا في الاهتمام به حتى أنَّهم " أفردوا له ديوانًا ، وليس أدل على اهتمام الفاطميين بالحمام من أنَّ العزيز بالله ثاني خلفاء الفاطميين بمصر ذكر لوزيره يعقوب بن كلس أنَّه لم ير القراصية البعلبكية منذ أمد طويل، فكتب الوزير لوقته بطاقة يأمر فيها حاكمه على العاصمة الشامية أن يجمع ما بها من الحمام المصري ويعلّق في كل طائرٍ حبَّاتٍ من القراصية البعلبكية ويرسلها إلى مصر،