في هذا القسم سنتبنّى تصنيف المفكر أديب صعب (3) ورؤيته لمهمة الجامعة تحت هذه العناوين الأربعة الكبيرة: (1) الجامعة مكان لإعداد اختصاصيين. (2) الجامعة مكان لإعداد باحثين. (3) الجامعة مكان لإعداد مثقفين. (4) الجامعة مكان للتدريب على التفكير النقدي. معظم الطلاب يدخلون الجامعة سعياً وراء اختصاص معين في حقل أو آخر من حقول المعرفة، كالهندسة أو الطب أو الفيزياء أو التاريخ أو الفلسفة أو الاقتصاد أو علم النفس أو الأدب. والجامعة إنما استمدّت اسمها من جمعها كل الاختصاصات أو معظمها، وإن اقتصرت بعض الجامعات على عدد قليل من الاختصاصات. لكن في هذه الحال ينطبق عليها اسم الكلّية أكثر من اسم الجامعة. ويأتي دَور الأستاذ في الصف لينقل أساسيات المعرفة إلى الطلاب، علماً أنّ أهم ما يفعله الأستاذ هو تأهيل الطلاب لابتكار مناهج أو طرق يستطيعون على أساسها تحرّي المعارف بأنفسهم. فالمواد التي تتيحها الجامعة في حقول الاختصاص المختلفة لطلابها غير كافية لتغطية هذه الحقول. لذلك تركّز الجامعة على أساسيات علم معين، مع مساعدة طلاب الاختصاص على تكوين منهج يعينهم على الاستزادة وتحرّي المستجدّات في حقول اختصاصهم. عندما يخرج إلى العمل، وما يصحّ على الطب يصحّ على أيّ اختصاص جامعي آخر. لم تَعرف العلومُ والمعارفُ التقدمَ إلا على أيدي باحثين. وفي رأي أحد كبار علماء النفس، وهو المساهمة في صنع ما ليس بأقل من مستقبل الجنس البشري في مختلف المجالات، غير أنّ العلماء المبتكِرين عموماً ما كانوا ليكرّسوا حياتهم لملاحقة ابتكاراتهم لو لم يكن هذا النوع من العمل عين اللذّة والرغبة والحلاوة بالنسبة إليهم. وهؤلاء قلّة من طلاب الجامعات الذين لم يكتفوا بالدرجة الاولى من الاختصاص، وإذ لا يعني هذا أنّ كل مَن يحمل درجة من هذا النوع هو بالضرورة باحث أصيل أو باحث من أيّ نوع، ومن واجبات الجامعة تأمين أفضل الظروف المادية والمعنوية في سبيل إعداد بعض طلابها كي يكونوا باحثين. ولا تكتفي الجامعات بالدوائر التقليدية من أجل تحقيق هذا الهدف، مركز علم النفس الديني، والخطأ الذي يمكن أن ترتكبه بعض الجامعات في حق مراكز الأبحاث لديها هو إهمال دعمها بما يكفي من معدّات وتسهيلات ومرشدين للطلاب، بحجّة أنّ المقبلين على الاختصاص في مراكز من هذا النوع أقلية على الدوام، وأنها بالتالي تحتاج إلى موازنة ضخمة. لكنّ الجامعة تتخلى عن إحدى أكبر مهمّاتها إنْ هي تخلّت عن تأسيس مراكز أبحاث ودعمها على أفضل وجه. وإضافةً إلى الخدمات الجلّى التي تقدمها هذه المراكز للمجتمع والحضارة، فهي التي تصنع اسمَ الجامعة أو سِمَتَها أكثر من أيّ عامل آخر. إلا أنّ مهمّة الجامعة لا تقف عند هذا الحد، وإنْ كانت جامعات كثيرة حول العالم تكتفي به ظنّاً أنها تلبّي حاجةَ سوق العمل بوظيفتها الأولى وحاجةَ تقدُّم العلوم بالوظيفة الثانية. سواءٌ أكان مكانها المدرسة أم الجامعة أم سواهما، وقد سُمِّيَت هذه الدراسات إنسانية لأنها تتناول الإنسان في بُعده الوجودي أو النفسي أو الروحي. ومن أبرزها التاريخ والفلسفة والأدب والعلوم الاجتماعية والدين والفن. فهو وصفَ العلوم أو المعارف المختلفة بقوله إنّ كلاً منها يقتطع جانباً من الوجود ويعمل عليه. والجيولوجيا من حيث طبقات الأرض، مركّزاً على الغاية أو المعنى: ما معنى الوجود؟ ما غايته؟ كيف يمكن أن ينظر الإنسان إلى العالم، بما في ذلك نفسه؟ ما الفرق بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل؟ كيف تنتقل الأشياء من ذاك الطور إلى هذا، أي كيف تحقق ذاتها؟ ويطلق على هذا العلم اسم "الفلسفة الأولى"، وإذ لن نحصر الثقافة بالفلسفة، لكن تجدر الإشارة إلى أنّ ما قصده أرسطو بالفلسفة كان يذهب أبعد كثيراً مما تشير إليه الكلمة اليوم. الفلسفة آنذاك كانت تعني التبحُّر في علوم كثيرة تحوي كل علوم الإنسان إضافةً إلى الرياضيات والعلوم الطبيعية والطب وما تَيسَّر من بقية المعارف. إنّ الطبيب الذي لم يطّلع اطّلاعاً لائقاً على علمَي النفس والاجتماع يجهل المريض الذي يقصده للعلاج. فهذا المريض فرد ينتمي إلى بيئة اجتماعية معينة، يجب أن ينشأ تعاون بينها وبين المريض من أجل حصول الشفاء. كما أنّ وضع المريض النفسي هو أحد عوامل شفائه. ثمّ إنّ قراءة الشعر والرواية وسواهما من الأنواع الأدبية تساعد الطبيب في فهم الشخصية البشرية فهماً أكبر. ومَن يقرأ كتابات فرويد يدرك أهمية الأدب والفلسفة والثقافة عموماً للطب. لكنّ الأرجح أنه سوف ينظر إلى ذاك الإنسان الذي يقصده بهدف العلاج والشفاء كما لو كان "زبوناً" جاء يشتري سلعة من حانوته أكثر من كونه "مريضاً"؛ وما قلناه عن الاختصاص الطبي ينطبق على كل حقول الاختصاص. صحيحٌ أنّ مهمّة الجامعة تكوين الطبيب، فالاختصاص في التاريخ أو علم النفس أو علم الاجتماع أو الفلسفة يقتضي، والنظرة إلى العالم تنطوي على نظرة إلى الإنسان عموماً وإلى الذات. وهذا ما أكّدته الفلسفة الرواقية في تركيزها على فحص الذات المستمر. إنّ النظرة إلى العالم تشبه الخريطة التي يحملها السائح أو السائق لتدلّه على المكان. وسوف يبقى الاختصاصيون يتلمسون طريقهم على غير هدى ما لم تزوّدهم الجامعة بالأدوات التي يرسمون بها خرائطهم. أي يجهل كل ما يقع خارج نطاقه المحدود جداً، أن تكون العلوم الاختبارية والتقنيات في عصره تقدّمت على أيدي أُناس عديمي الثقافة، بعدما كانت المعارف مترابطة كما يجب أن تكون (7). المعلّم يدل الطالب على الطريق، لكن لا يجوز ولا يمكن أن يقطعها عنه. وقد تخلّت التربية الحديثة عن اعتماد التلقين، في هذه الأنظمة كل ما في وسعها لسكب تفكير الطلاب في القالب المرغوب بعيداً عن منطق التساؤل والنقد. وكم من الأساتذة الجامعيين في الأنظمة المنغلقة أُنهِيَت خدماتهم لأنهم شجّعوا الطلاب على التفكير النقدي من خلال كتاب أو دراسة أو تعليم. لكن ما هو التفكير النقدي؟ وهل يعني بالضرورة رفض التقاليد التي استمدها المرء من محيطه العائلي والاجتماعي، وعلى الأخص تلك المتعلقة بالعقائد الدينية؟ التفكير النقدي يعني أن نكوّن مناهجنا، على نحو يمكّننا من الدفاع عما نقبله من معارف وأفكار وقيم ومواقف دفاعاً مقنعاً. فالنقد أو الفهم النقدي أو التفكير النقدي، يذهب أبعد من رفض فكرة معينة أو قبولها إلى حسن الدفاع عنها، بل أن يستعرض الرأي الذي تَوصل إليه والخطوات التي قطعها في هذا السبيل، التدريب على هذا النوع من التفكير يزوّد الطالب بالمناهج أو الطرق التي على أساسها يتحرّى المعارف ويكوّن الآراء، وهكذا يصير معلّم نفسه الفعلي. وهناك عدد من الكتب التي وضعها أكاديميون مرموقون حول منهجية القراءة والبحث والكتابة، أُستاذ الفلسفة في جامعة شيكاغو الأميركية. في المرحلة الأولى يتولّى القارئ وضع الكتاب مع النوع الذي ينتمي إليه، في المرحلة الثانية يتناول القارئ الكلمات والجمل المفصلية التي يستعملها الكاتب، المرحلة الثالثة تدور على نقد الكتاب لجهة أُمور مثل الصحة والخطأ. بل الحقائق والقيم الخالدة في كل زمان ومكان. وتبنّت جامعة شيكاغو البرنامج المذكور نموذجاً للثقافة العامة المفروضة على كل طلابها مهما كان حقل اختصاصهم. اتّفق آدلر مع ناشري الموسوعة البريطانية على إصدار 443 كتاباً من روائع الأدب والفلسفة والانسانيات عموماً، وعمدت جامعات كثيرة إلى اعتماد برامج للثقافة الإنسانية، أما كتاب آيفور ريتشاردز "كيف نقرأ صفحة" (1942) فهو أيضاً دليل منهجي – عملي إلى القراءة الفعّالة (9). لكنه عمد إلى اختيار مئة كلمة تشكّل، مساوٍ. لقد وضع الكاتبان المرموقان كتابيهما تأكيداً على أنّ مَن يستطيع قراءة صفحة واحدة كما يجب يستطيع قراءة كل صفحة، لكن بما أنّ الوقت الذي يقضيه الطالب في الجامعة محدود بسنواته وأيامه وساعاته، كان لا بدّ من تدريب الطالب على المنهج أو الطريقة لكي يستطيع أن يكون معلّم نفسه عبر كونه قارئاً ناجحاً وناقداً راجحاً. الوظائف الأربع التي تكلمنا عنها، لا تَستنفد كل الوظائف المرتبطة باسم الجامعة ومفهوم الجامعة. دعوة أساتذة زوّار في مختلف الاختصاصات وحقول المعرفة من جامعات ومراكز أبحاث مرموقة حول العالم،