نظم الإثبات في الفقه الإسلامي وتطبيقاته في النظام السعوديتمهيد وتقسيمعرف فقهاء الشريعة الإسلامية نظماً للإثبات، ونظموها تحت مسمى إطلاق الأدلة وتقييدها . فقد ذهب بعض كبار الفقهاء وعلى رأسهم ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إلى إطلاق الأدلة، فأجازوا إثبات أي دعوى بأي دليل كان(1).في حين ذهب جمهور الفقهاء إلى حصر الأدلة في طائفة معينة يلتزم بها القاضي ولا يحيد عنها في الإثبات، فلا يجوز له إثبات أي دعوى بغير هذه الأدلة. ويرجع السبب في ذلك إلى اختلافهما في بيان معنى البيئة، أهي شهادة الشهود - كما ذهب جمهور الفقهاء - أم هي كل ما يبين الحق ويظهره كما ذهب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم (").وذهب ابن حزم الظاهري إلى أن البينة تشمل الشهود وعلم القاضي (۳). ولا حاجة إلى الاستفاضة في بيان هذا الرأي لأنه يدخل ضمن الرأيين السابقين، وفيما يلي عرض هذين الرأيين ثم بيان رأينا الشخصي في الموضوع بعد مناقشة الرأيين، وأخيراً بیان تطبيقات نظام الاقتناع القضائي في الفقه الإسلامي والنظام السعودي، وذلك من خلال أربعة مباحث: المبحث الأول يتناول نظام إطلاق الأدلة، والمبحث الثاني يعرض لنظام الأدلة المقيدة، أما المبحث الثالث فيوضح رأينا الشخصي في الموضوع، وأخيراً المبحث الرابع تطبيقات نظام الاقتناع القضائي في الفقه الإسلامي والنظام السعودي.المبحث الأول: رأي القائلين بإطلاق الأدلة ( نظام الأدلة المطلقة. وذلك من خلال التعرض لمضمون هذا الرأي، ثم بيان أدلته، وذلك على الوجه التالي:المطلب الأول: مضمون الرأي القائل بإطلاق الأدلة:من أنصار هذا الرأى كما سبق، ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية. ويذهب انصار هذا الرأى إلى القول بأن لفظ السنة لا يقتصر على شهادة الشهود فحسب. وإنما يتسع ليشمل بقية الأدلة التى يظهر بها الحق، أو بمعنى آخر إن كل ما يظهر معنى البينة، سواء كان شهودا أو اعترافا أو ذلك من أدلة.فأساس هذا الرأي هو عدم تحديد طرق بعينها للإثبات يتقيد بها كل من القاضي والخصوم، كما أن القاضي حر في قبول أى دليل يراه منتجاً في الدعوى إذا كان مقتنعاً بصحته.ومن جملة ما قاله أنصار هذا الرأي: أن الله سبحانه وتعالى أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض، فإن ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه. والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل، أن يخص طريق العدل وأماراته وإعلامه بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة، فلا يجعله من طرق الإثبات . فأي طريق استخرج به العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة له . وقد حبس رسول الله ﷺ في تهمة وعاقب في تهمة لما ظهرت أمارات الريبة على المتهم (۲).والبيئة في كلام الله ورسوله وكلام الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين اسم لكل ما يبين الحق ويظهره، فهي أعم من البينة في اصطلاح الفقهاء الذين خصوها بالشاهدين أو الشاهد واليمين، ولا حجر في الاصطلاح ما لم يتضمن حمل كلام الله ورسوله عليه فيقع من ذلك الغلط في فهم النصوص وحملها على غير مراد المتكلم (٢).وقد حكم امير المومنين عمر بن الخطاب والصحابة معه رضوان الله عليهم برجم المرأة التى ظهر عليها حمل ولا زوج لها، ولا سيد اعتمادا على القرينة وقد حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والصحابة معه رضوان الله عليهم مخالف - بوجوب الحد برائحة الخمر من فى الرجل أو قيئه خمرا اعتمادا على الظاهرة. وحكم عمر وابن مسعود رضى الله عنهما - ولا يعرف لهما من الصحابةالقرينة أقوى من الشهادة والإقرار؛ إذ هما خبران يتطرق إليهما الصدق والكذب أما ولم يزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم، فهذه والجود المال المسروق معه فهو نص صريح لا يتطرق إليه شبهة ) .وعلى هذا يمكن القول با ان هذا الرايا القول أنصاره بالتفسير الواسع لمعنى (البيئة) فلا يقصرونها على شهادة الشهود، وإنما هي في عرفهم اسم لكل ما يبين الحق ويظهره، ومن ثم يجب على القاضي أن يحكم في الدعوى بأي دليل يظهر به الحق دون التقييد بشهادة الشهود .المطلب الثاني: أدلة القائلين بإطلاق الأدلة:استدل القائلون بإطلاق الأدلة على صحة مذهبهم بأدلة من القرآن والسنة، وذلك على الوجه التالي:الفرع الأول: الأدلة من القرآن الكريم:استدل ابن تيمية وابن القيم على أن البينة قد جاءت في كتاب الله بمعنى كل ما يبين الحق ويظهره بعدة أدلة،كما في قوله سبحانه ولقد ارسلنا رسولنا بالبينات (1) ، وقوله جل شانه فرما اني على بيئة من ربى (٢) ، وقوله عز من قائل: (أو لم تأتهم بيئة ما في الصمت تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البيئة (1) ، وقوله جل ثناؤه فولالأولى ) (1).ومن ذلك يتضح أن لفظ البيئة لا يختص بالشهادة دون غيرها، فالبيئة اسم لكل ما واعمار الحق ويبينه، ومن خصها بالشاهدين الا إلا الشاهد المشاهد لم يوف مسماها ما يظهر الحات البيئة قط في القرآن الكريم مراداً بها الشاهدين، وإنما أنت مرادا بها الحجة والدليل والبرهان، مفردة ومجموعة (0).فالله سبحانه وتعالى لا يرد حقاً متى ظهر بدليله ؛ لأن في ذلك ضياعاً لحقوق الله وحقوق العباد أو تعطيلها ، حيث لا يقف ظهور الحق على أمر بعينه،الفرع الثاني: الأدلة من السنةيرى ابن القيم في قول الرسول ﷺ للمدعي: «ألك بيئة؟»، وقوله أيضاً البيئة على المدعي )، أن المراد : أن عليه - المدعي - ما يصحح دعواه ليحكم له والشاهدان من البيئة، ولا ريب أن غيرها من أنواع البيئة قد يكون أقوى منها، كدلالة الحال على صدق المدعي، فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد (4).فالبيئة والدلالة والحجة والدليل والبرهان والآية والتبصرة والعلامة والأمارة متقاربة المعنى، فالشارع لم يلغ القرائن والأمارات ودلائل الأحوال، بل من استقرا الشرع في مصادره وموارده وجده شاهداً لها بالاعتبار مرتباً عليها الأحكام).الحق ويظهره،وقد أخذ بذلك القضاء السعودي حين قرر العمل بالقرائن كطريق من طرق الحكم . وقد قرر في نفس الحكم أن البينة ليست محصورة في اعتراف أو شهود، بل هي كل ما يبين الحق ويظهره وقرر أيضا أنه لو ترك العمل بالقرائن لضاعت حقوق كثيرة. ويستدل بالأدلة والقرائن الجنائية في مكان الحادث، ولو تركت لضاعت الحقوق وانتشرت الجرائم وتقوض الأمن ).وبناء على ذلك يجوز الاعتماد على شواهد الحال والأمارات الظاهرة وعقوبة أهل التهم بناء عليها (٢).المبحث الثاني: القائلون بالتقييد (الأدلة المقيدة):يرى أنصار هذا الرأي أو النظام - جمهور الفقهاء - ضرورة تقيد الخصوم بأدلة معينة في الإثبات، كما يتقيد بها القاضي فلا يحكم إلا بموجبها . ثم بيان أدلتهنظام الإثبات الجنائيالمطلب الأول: مضمون رأي القائلين بالتقييدترجع فكرة التقييد بادلة إلى ما ذهب إليه أنصار هذا الرأى من حصر البيئة فقط فى الشهادة مستدلين على ذلك بأن البيئة قد وردت في مواطن كثيرة بمعنى الشهادة، ومن ثم تكون قد تحددت أمام المدعي أدلة الإثبات التي يتعين عليه الالتجاء إليها الاثبات دعواه، والتي تعتبر مصدراً لاقتناع القاضي، ولكن مرادهم من ذلك أن لفظ البيئة إذا ما أطلق فإنه لا ينصرف إلا إلى شهادة الشهود، والقضاء بعلم القاضي واليمين والنكول عنه والقسامة والقرينة القاطعة، وغير ذلك من الطرق (۲).غير أن هذه الطرق لا تندرج تحت لفظ البينة، وإنما يسمى كل طريق باسمه. فيقال: القضاء بالإقرار، والقضاء بعلم القاضي، والقضاء بالبينة إذا كان القضاءبالشهود وحدهم (٢).ويرى بعض مؤيدي هذا الرأي أن مما يدعو للتقييد ما لاحظه أحمد فتحي باشا زغلول في شرحه القانون المدني حيث قال رحمه الله: «الأصل في الدليل الإباحة أعنى أن للإنسان استنباطه من كل فعل أو حال يوصل إلى بيان الحق وإثباته، إلا أن من الأعمال ما لو ترك دليله لمجرد الاجتهاد يتطرق إليه الاضطراب ويدعو إلى طول النزاع، فيكثر الفساد ولا تستقيم أحوال الناس، لذلك اضطر القانون إلى بيان ما يجوز وما لا يجوز من الأدلة في أحوال مخصوصة (1).الباب الثانيومن أنصار هذا الرأى الشافعية (١) والمالكية (٢) والحنفية (٢) والحنابلة، عدا رواية عن الإمام أحمد، والكمية الزيتية بالإنبات بالقرائن، كما يؤيد هذا الاتجاه اوايلية الشيعة الإمامية، والشيعية الزيدية والمذاهب الإباضي)، وذهب ابن حزم الظاهري ) إلى القول بأن البيئة تطلق على شهادة الشهود وعلم القاضي، وفيما يلى بيان الدولة جمهور الفقهاء القائلين بالتقييد .المطلب الثاني: أدلة الجمهور:الفرع الأول: أدلة الجمهور من القرآن الكريم:ذهب جمهور الفقهاء إلى أن النصوص وردت بالشهادة واليمين، فوجب الوقوف عند ما جاءت به النصوص (۲) وردت هذه النصوص على لسان الشرع ومقصوداً بالبينة شهادة الشهود، ومن ذلك قوله تعالى في إثبات جريمة الزنا : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فأشهدوا عليهن أربعة منكم ) (۲)، وقوله تعالى في الذين يرمون بالزنا : لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء ) (۸) . فكان حكم الله ألا يثبت الحد على الزاني إلا بأربعة شهود ، وقوله تعالى في حد القذف والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) (1) ، وقوله تعالى في الوصية: اثنان نوا عدل منكم ) ()، فكان حكمه أن يقبل في الوصية اثنين، وكذلك يقبل في الحدود وجميع الحقوق اثنين في غير الزنا .