كيف ابتدع ابن خلدون علم العمران؟ الدوافع والآليات والمصادر الأساسية تميّز ابن خلدون عمن سبقه من المؤرخين بأنه انتقل من مرحلة سرد الروايات وتحقيق أسانيدها أحياناً إلى نقدها مضمونياً، بالاحتكام إلى طبائع العمران ومقتضياته. مضى ابن خلدون في وضع أسس علم العمران، كيما يكون حاكما على علم التاريخ وتدوينه. بما يبدل القواعد التقليدية لرواية التاريخ، لم يكن سهلا قبوله من علماء العصر. فكانت الحاجة إلى إضفاء الشرعية على هذا العلم، وهذا ما دفع ابن خلدون إلى الانطلاق من أقرب العلوم إليه، عدّل بعض شروط الإمامة لتصبح على شاكلة فهمه لعلم السياسة، فأبدل مفهوم الشوكة الذي يعود الفضل في تأصيله إلى الجويني قبل ثلاثة قرون، لكن الشوكة أليق من العصبية بمعايير الفقه الإسلامي، لما تحمله العصبية القبلية من أبعاد سلبية. لم يقرّ ابن خلدون بدَينه للجويني، وذكر الماوردي مع أن الأخير لم يتناول مفهوم الشوكة، ولم يتوسع في مفهوم الاستيلاء كما فعل الجويني. ولم يعترف بمصدر ذلك الإلهام. لكن القرائن والشواهد تدلّ على المصدر، العمران، الملك. اعتبر ابن خلدون - (808ه/1405م) نفسه مبتدعاً لعلم جديد هو علم العمران، 108 :1987)، اثناء محاولة وضع قواعد معيارية لأخبار الماضي تمييزا بين صحيحها وسقيمها(1). ويرتبط العلم الجديد بالتاريخ على نحوٍ وثيق، وكان يُفترض به من حيث الغاية المصرّح بها في المقدمة، أن يؤسس ما يمكن أن يكون قواعد لكتابة التاريخ أو تفسير وقائعه، ثم يعود إليهما، وهذان العلمان الأخيران على صلة ما بعلم التاريخ أيضا، تعميماً وتقعيداً. وعليه، والمعروف بسرد الروايات، وتعريفه، وتحديد موضوعه ومسائله(2). ولو لم يفعل ذلك فلربما 1) في البدء تناول ابن خلدون علم التاريخ والتدوين فيه، وقال إنه أراد التصنيف فيه على نحو مبتكر، ثم انتقل إلى مغالط المؤرخين، ابن خلدون، 2006، ج 11 :1 و60). 2) قال ابن خلدون: (وكأن هذا علم مستقل بنفسه، وهذا شآن كل علم من العلوم، 2006، لم يختلف اثنان في تصنيفه داخل حقل التاريخ عامة. فبمجرّد الإعلان عن علم العمران، انتقل النظر إلى مستوى مختلف نوعيا، وهنا تحديدا تردّدت الآراء كثيرا في وضع هذا العلم بإزاء منظومة العلوم الإنسانية، ولا سيَّما علاقته بعلم الاجتماع الحديث، تأسيساً ريادياً وتمهيداً منهجياً (3)، أم مجرد إنجاز معرفي معزول مكانا وزمانا ومنقطع عن مسار تطوّر ذاك العلم(4)؟ لقد استقرأ ابن خلدون ما كُتب من قبله في الشأن نفسه، واستفرغ جهده تفتيشاً عن دراسات سابقة محتملة تنتمي إليه بوجه أو بآخر، فرأى أن بعض من سبقوه حوّموا حول الفكرة، بل ربما لم يكن هذا ببالهم إطلاقاً (5). وعليه، كان حريصاً على تأكيد أبوّته للعلم الجديد، متجاوزاً قضية ضبط علم التاريخ إلى ترسيخ قواعد علم العمران وتسويغه معرفيا. 3) تتفرع المسألة الخلافية بين الباحثين في الغرب والشرق إلى ثلاث شُعب رئيسية: فهل كان ابن خلدون رائداً في ابتداع علم الاجتماع بصيغته البدائية وبتمييز معرفي كاف عن العلوم الإنسانية القريبة منه ولا سيَّما التاريخ؟ وهل تأثر مؤسسو علم الاجتماع الغربي بكتابات ابن خلدون، 1857 - 1798) (Auguste Comte) أي أوغيست كونت 1917 _ 1858)، إن ابن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي/الثامن الهجري، قد نجح في تشخيص هذا العلم الجديد، وتمييزه معرفيا ولو بصعوبة عن علم التاريخ، معترفا بأن جهده يحتاج إلى تطوير ومتابعة. وكما أن مونتيسكيو (1755 - 1689) (Montesquieu) حاول في كتابه روح القوانين استنباط نظام منسجم من وقائع التاريخ المتناثرة بما يكشف القوانين العميقة التي تسيّره، فكذلك فعل ابن خلدون في مقدمته، فلم لا يكون ممهدا لعلم الاجتماع كما مونتيسكيو؟ وثانيا، لكن لا يوجد ما يفيد الجزم بحصول تأثير مباشر. وثالثاً، إن ابن خلدون وإن كان منطلقا من أسس دينية، وهذا مما يُحسب له منهجياً في مرحلة مبكرة. وفضلاً عن ذلك، Alatas, Sunar :لجتمعية، and Yasliçimen, 2008: 408-433). 4) لاحظ علي الوردي أن مقدمة ابن خلدون لم تلقَ الاهتمام اللازم فبقيت دون أي شرحٍ أو تعليق عليها طوال القرون التالية بخلاف ما كان عليه الحال مع التصنيفات المهمة، معتبرا أن عالم الإسلام دخل بعده في الظلمات، وأن أفكاره لم تجد بيئة صالحة كي تنمو، انظر: (الوردي، 5) يتساءل ابن خلدون هل غفل الأولون عن هذا العلم؟ أم كتبوا فيه ولم يصل إليه؟ وهنا يحاول العثور على مبرّرات، فلعله من العلوم التي اندرست، أو التي محاها عمر (23ه/644م) من علوم الفرس عند الفتح، أو لعل الأوّلين لم يعتنوا به لقلة الاهتمام بثمرته وهو تصحيح الأخبار فأهملوه. لكن هل يمكن الركون إلى مسار اكتشاف علم العمران كما أفصح عنه ابن خلدون بوصفه الرواية الرسمية؟ وهل كان هذا العلم وليد إلهام باطني وانكشاف ذاتي كما يدّعي عقب خلوة أشهر في قلعة بني سلامة النائية، بعيداً من الأمصار، وخزائن الكتب (6) أم هو استلهام من الفقه السياسي الأشعري المنطلق من قراءة وقائع التاريخ الإسلامي قبل تنزيل الأحكام عليها؟ وفي المقابل، هل كانت تجربته العملية في أروقة السلاطين ودسائس القصور وتقلّبات الأزمنة حافزاً للنظر السياسي، فألبس فكرته الجديدة لبوس التاريخ ونقده والاهتمام بتطوير قواعده، بينما كان هدفه الحقيقي ابتداع علم جديد يُحسب له، من خلال تعديل بعض قواعد الفقه السلطاني؟ وما علاقة قواعد السياسة، وأحكام الفقه السلطاني في تمحيص أخبار التاريخ، بل ما علاقتهما بعلم العمران، الذي يدرس أحوال الاجتماع الإنساني، إن لم يكن المقصود تأصيل مفهوم العصبية وربطه بالسياسة الشرعية وفقهها؟ وهل ثمة علاقة تبادلية أو تطوّرية بين مفهوم الشوكة(1) عند الجويني (478ه/1058م)، ومفهوم العصبية (8) عند ابن خلدون، وقد قرنهما معاً غالباً لدى إيراد مواصفات الإمام أو السلطان في المقدمة؟ ولماذا أغفل ابن خلدون ذكر كتاب الجويني غياث الأمم في التياث الظَّلم من بين المصادر الرئيسية التي أفاد منها، واكتفى بذكر الماوردي وكتابه الأحكام السلطانية رغم أن الجويني أقرب فكريا إليه من الماوردي؟ تلك أسئلة منهجية مشروعة باعتبار أن سياق المقدمة لا يشير إلى تسلسل منطقي واضح في الانتقال من حقل بحثي إلى اخر، إذ إنه بعدما قرّر أولاً أن تمييز الأخبار يكون بالاحتكام إلى قواعد السياسة، وطبائع الموجودات، = ويستنتج ابن خلدون أن مسائل من هذا العلم تظهر عَرَضاً لدى الفلاسفة والأصوليين (علماء أصول الفقه) والمقاصديين (علم مقاصد الشريعة)، وكذلك في الحكم المنثورة، في كتاب أرسطو المنحول (السياسة)، ومسائل في رسائل ابن المقفع، انظر: (ابن خلدون، 2006، ج 65 - 61 :1). 6) تقع قلعة بني سلامة في الأطلس التلّي بمنطقة (تاغَزُوت»، وهي مكان حصين يشرف على سهول «وادي التَّحت) الشاسعة والخصبة. وفي هذه القلعة ثلاث مغارات، تُعرف منذ القرن الرابع عشر الميلادي بمغارات ابن خلدون، السعودية)، السنة 67، العدد 2 (آذار/مارس - نيسان/آبريل 2018)، ص 55 - 52. وقد شاك الرجل يشاك شوكاً أي ظهرت شوكته وحدّته، فهو شائك السلاح. ت. 8) عَصَبة الرجل بنوه وقرابته لأبيه، وأولياؤه الذكور من ورثته، [د. ت. 2006، ج 44 :1)، أورد فصولاً في علم الكلام والفقه السلطاني، أي في معنى الخلافة ومذاهب الفرق الإسلامية فيها، وانقلاب الخلافة إلى ملك، وشروط البيعة والخطط الدينية للخلافة (9). ولذا، تقوم فرضية البحث على ان ابن خلدون قد استلهم من فقه الأحكام السلطانية عامة، ومن كتاب غياث الأمم لأبي المعالي الجويني خاصة، ليس فقط من أجل استنباط مفهوم العصبية القريب معنى وحكما من مفهوم الشوكة. بل إنه استعمل الفقه السلطاني ومفهوم الشوكة تحديدا، من أجل تسويغ مفهوم العصبية المذموم إسلاميا، عبر إبدال مفهوم الشوكة بمفهوم العصبية، ثم إدماج الاخير في المنظومة الفقهية، وإسقاط شرط النسب القرشي ابتداءً ومآلا، انتقالاً منه إلى شرعنة علم العمران نفسه، المتمحور حول مفهوم العصبية. لكن قبل الشروع في البحث، لا بدّ من الإشارة إلى أن الدراسات الخلدونية التي يصعب إحصاؤها من كثرتها وتنوّع مظانّها، والتي تناولت جوانب عدة من المقدمة ولا سيّما مفهومٍ العصبية وما تعنيه، قد أغفلت هذا الجانب وهو علاقة علم العمران بالفقه السلطاني، نظراً لاختلاف المجال والمنهج والغاية بين هذين العلمين، ولأن الدراسين لابن خلدون لم يطلعوا على الأرجح على كتاب الجويني غياث الأمم، ولا طالعوا مفهوم الشوكة ودوره المركزي في نظرية الحكم بحسب المذهب السنّي الأشعري الذي ينتمي إليه صاحب المقدمة. والباحثون القلائل الذين لحظوا إمكان التأثر بالفقه السلطاني عامة وبالجويني خاصة(10)، لم تكن استنتاجاتهم وافية بالمطلب الذي يطمح إليه هذا البحث الساعي إلى مزيد الفهم لمقاصد المقدمة وسبر محتواها المعرفي والتاريخي. 9) ابن خلدون، 2006، ج 1، ما بين صفحتي 332 و394. فيمتد إلى الصفحة 465. انظر: Gibb, وأن الغزالي أزاح الستار عن الأساس الحقيقي الذي تعتمد عليه الخلافة وكل أنواع الحكم وهو الشوكة. انظر (الجابري، فتلاحظ أن ابن خلدون يُبدل شرط النسب القرشي في الإمام بتوافر العصبية وينسب إلى الباقلاني إسقاط شرط النسب بينما كان عليه أن ينسبه إلى الجويني، ابو زيد، عميق في نظرته السياسية والفقهية. ومن ثمّ التنقيب عن مؤثرات محتملة في مقدمته، من أدبيات الفقه السلطاني، وتحديداً مما كتبه الجويني، لما تُظهره حركية ابن خلدون في المقدمة من سعي لتعديل صفات الإمام وشرعية السلطة، وما تشير إليه المقارنة بين مفهومي الشوكة والعصبية من تقارب شديد، لا يمكن تسويغه إلا باعتبار أنه إفادة مباشرة من فكر الجويني. وينقسم هذا البحث إلى ثلاثة أقسام، ويتطرّق الثاني إلى السيرورات التي اعتمدها لتبرير هذا العلم. بينما يركّز القسم الثالث على المصدر الأساسي الذي استلهم منه ابن خلدون واستعان به لإضفاء الشرعية على مفهوم العصبية بخاصة وعلى علم العمران بعامة. الفصل الثالث في أن البدو أقدم من الحضر وسابق عليه وأن - البادية أصل العمران والأمصار مدد لهما وبقدر ما سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن الآخر ويصعب عليها اكتسابه، فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير وحصلت لها ملكته بَعُدّ عن الشر وصعب عليه طريقه، قد تلوثت أنفسهم بكثير من أحوالهم، العاجزون عما فوقه، وأن الحضر المعتنون بحاجات الترف مذمومات الخلق والشر، وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر والكمال في أحوالهم وعوائدهم، حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في الحاجي والكمالي وسابق عليه؛ لأن الضروري أصل والكمالي فرع فالبدو أصل للمدن والحضر، وسابق عليهما؛ وبين كبرائهم وأهل محارمهم لا يصدهم عنه وازع الحشمة لما أول مطالب الإنسان الضروري ولا ينتهي إلى الكمال والترف إلا خذتهم به عوائد السوء في التظاهر بالفواحش قولاً وعملاً، فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة، البدو وإن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم إلا أنه في المقدار ولهذا نجد التمدن غاية للبدوي يجري إليها، الضروري لا في الترف ولا في شيء من أسباب الشهوات بقترحه منها، ومتى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال واللذات ودواعيها، فعوائدهم في معاملاتهم على نسبتها وما لترف وعوائده عاج إلى الدعة، يحصل فيهم من مذاهب السوء ومذمومات الخلق بالنسبة إلى أهل وهكذا شأن القبائل المتبدية كلهم. والحضري لا يتشوف إلى أحوال الحضر أقل بكثير، فهم أقرب إلى الفطرة الأولى وأبعد عما ينطبع البادية إلا لضرورة تدعوه إليها أو لتقصير عن أحوال أهل مدينته. علاجهم عن علاج الحضر وهو ظاهر، ونهاية الشر لذين بناحية ذلك المصر وفي قراه، وأنهم أيسروا فسكنوا المصر وذلك يدل على أن لحضر، واللّه يحب المتقين. أحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة وأنها أصل لها فتفهَمه. قول الحجاج لسلمة بن الأكوع وقد بلغه أنه خرج إلى سكنى فرب حي أعظم من حي، ومصر أوسع البادية فقال له: ارتددت على عقبيك تعرَّبست؟! فقال: لا، ومدينة أكثر عمراناً من مدينة، رسول اللّٰه ي أذن لي في البدو. فاعلم أن الهجرة افترضت أول متقدم على وجود المدن والأمصار وأصل لها، الضروره المعاشية، واللّه أعلم. وقد كان المهاجرون يستعيذون بالله من التعرب وهو سكنى البادية الفصل الرابع حيث لا تجب الهجرة، في أن أهل البدو أقرب إلى الخير عند مرضه بمكة: (اللهم أمض لأصحابي مجرتهم ولا تردهم على أعقابهم" ومعناه أن يوفقهم لملازمة المدينة وعدم التحول عنها من أهل الحضر فلا يرجعوا عن هجرتهم التي ابتدؤوا بها، وهو من باب الرجوع وسببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأول كانت متهيئة خاصاً بما قبل الفتح حين كانت الحاجة داعية إلى الهجرة لقلة مولود يولد على الفطرة، المسلمين، وأما بعد الفتح وحين كثر المسلمون واعتزوا وتكفل اللّه لنبيه بالعصمة من الناس، بأنفسهم قد صار لهم الباس خلقاً والشجاعة سجية يرجعون إليها وقيل: سقط وجوبها عمن أسلم وهاجر قبل الفتح، والكل متى دعاهم داع، أو استنفرهم صارخ. وأهل الحضر مهما مجمعون على أنها بعد الوفاة ساقطة، لأن الصحابة افترقوا من خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السفر عيال عليهم لا يملكون يومئذ في الآفاق وانتشروا ولم يبق إلا فضل السكنى بالمدينة وهو معهم شيئاً من أمر أنفسهم، وذلك مشاهد بالعيان حتى في معرفة هجرة، فقول الحجاج لسلمة حين سكن البادية: ارتددت على النواحي والجهات وموارد المياه ومشارع السبل، وسبب ذلك ما عقبيك تعربت: نعى عليه في ترك السكنى بالمدينة بالإشارة إلى شرحناه، وأصله أن الإنسان ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبيعته الدعاء المأثور الذي قدّمناه وهو قوله: ((لا تردهم على أعقابهم» ومزاجه، وأن النبي صحيحاً، واللّه يخلق ما يشاء. اللف الذن له في البدو ويكون ذلك خاصاً به كشهادة خزيمة وعناق أبي بردة ويكون الحجاج إنما نعى عليه ترك السكنى بالمدينة فقط العلمه بسقوط الهجرة بعد الوفاة، وأجابه سلمة بأن اغتنامه لإذن النبي وأفضل، فما آثره به واختصه إلا لمعنى علمه فيه وعلى كل تقدير، فليس في النعي عليه ترك هذا الواجب دليل على مذمة التعرب، والله سبحانه أعلم وبه التوفيق. الفصل السادس في أن معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة منهم فمن الغالب أن يكون الإنسان في ملكة غيره، الفصل الخامس في أن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر رفيقة وعادلة، لا يعاني منها حكم ولا منع وصد كان من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن، واثقين بعدم الوازع حتى صار لهم الإذلال جبلة لا يعرفون سواها. أما إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذ من سورة بأسهم وتذهب المنعة عنهم لما يكون من والسبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد التكاسل في النفوس المضطهدة كما نبينه وقد نهى عمر سعداً الراحة والدعة وانغمسوا في النعيم والترف ووكلوا أمرهم في رضي اللّه عنهما عن مثلها لما أخذ زهرةٌ بن جوية سَلَب الجالنوس المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم يوم القادسية فقتله وأخذ سلبه، وكتب إلى عمر يستأذنه، فكتب إليه عمر: نهم غازون آمنون، تعمد إلى مثل زهرة وقد صلي بما صلي به وبقي عليك ما بقي من الأجيال وتنزلوا منزلة النساء والولدان الذين هم عيال على أبي حربك وتكسر فوقه وتفسد قلبه! وأمضى له عمر سلبه. مثواهم، حتى صار ذلك خلقاً يتنزل منزلة الطبيعة وأهل البدو وأما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس بالكلية؛ لأن وقوع العقاب به ولم يدافع عن نفسه يكسبه المذلة التي تكسر من سورة بأسه بلا شك، ولا يثقون فيها بغيرهم، ويتجافون عن الهجوع وأخذت من عند الصبا أثرت في ذلك بعض الشيء لمرباه على إلا غراراً في المجالس وعلى الرحال وفوق الأقتاب ويتوجسون المخافة والانقياد، فلا يكون مدلاً ببأسه، ونجد أيضا الذين الفصل السابع الصنائع والعلوم والديانات ينقص ذلك من بأسهم كثيراً ولا يكادون يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه، في أن سكنى البدو لا يكون إلا طلبة العلم المنتحلين للقراءة والأخذ عن المشايخ والأئمة الممارسين للقبائل أهل العصبية التعليم والتأديب في مجالس الوقار والهيبة؛ إعلم أن اللّه سبحانه ركب في طبائع البشر الخير والشر كما ولا تستنكر ذلك بما وقع في الصحابة من أخذهم بأحكام قال تعالى (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) وقال: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا لدين والشريعة، وَتَقوَاهَا) والشر أقرب الخلال إليه إذا أهمل في مرعى عوائده ولم بأساً؛ لأن الشارع صلوات اللّه عليه لما أخذ المسلمون عنه دينهم يهذبه الاقتداء بالدين. وعلى ذلك الجم الغفير إلا من وفقه الله، ومن أخلاق البشر فيهم الظلم والعدوان بعض على بعض، فمن ولم يكن بتعليم صناعي ولا تأديب تعليمي، إنما هي أحكام الدين امتدت عينه إلى متاع أخيه امتدت يده إلى أخذه إلا أن يصده وازع وآدابه المتلقاة نقلاً يأخذون أنفسهم بها بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتصديق، فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما كانت ولم والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلْة لا يظلم تخدشها أظفار التأديب والحكم، قال عمر رضي اللّه عنه: (من لم يؤدبه الشرع لا أدبه اللّه»، حرصاً على أن يكون الوازع لكل أحد من نفسه ويقينا بأن الشارع أعلم بمصالح العباد. بعضهم على بعض، ولما تناقص الدين في الناس وأخذوا بالأحكام الوازعة ثم والسلطان عن التظالم، إلا إذا كان من الحاكم بنفسه، صار الشرع علما وصناعة يؤخذ بالتعليم والتأديب ورجع الناس ليلا أو العجز عن المقاومة نهارا، أو يدفعه ازدياد الحامية من البأس فيهم. وأما الشرعيه فغير مفسدة؛ لأن الوازع فيها لهم من الوقار والتجلة، وأما حللهم فإنما يذود عنها من خارج ذاتي، ولهذا كانت هذه الأحكام السلطانية والتعليمية مما تؤثر في ولا أهل الحواضر في ضعف نفوسهم وخَضْدِ الشوكة منهم بمعاناتهم بصدق دفاعهم وذيادهم إلا إذا كانوا عصبية وأهل نسب واحد؛ في وليدهم وكهولهم؛ لأنهم بذلك تشتد شوكتهم ويخشى جانبهم، إذ نعرة كل أحد على أحكام السلطان والتعليم والآداب؛ يضرب أحداً من الصبيان في التعليم فوق ثلاثة أسواط. نقله عن من شأن الغط، وأنه كان ثلاث مرات وهو ضعيف، لَيِنْ أَكَلَهُ الذَّتْبُ وَنَحْنُ عُصَبَةٌ إِنَّا إِذا لِخَاسِيرُونَ) والمعنى أنه لا شأن الغط أن يكون دليلاً على ذلك لبعده عن التعليم المتعارف، يتوهم العدوان على أحد مع وجود العصبة له. واللّه الحكيم الخبير .