الذي يمتدّ إلى مرمى البصر، وكانت قد وصلتهم القصص والحكايات المليئة بالخوف والرهبة عن الربابنة والغاصة والسيب، المرحوم السيد علي السيد حسن الديري، نموذج للبحارة الذين تغرّبوا فجابوا البحر بحثاً عن لقمة العيش، عاش كما عاش أقرانه تجربة الابتعاد عن الوطن، يقول السيد علي «عشت كما عاش أقراني على البحر، إذ كان يشكل لنا مصدر الرزق الوحيد مع بعض الاستثناءات بالنسبة لأولئك الذين يمتلكون المزارع والدوالي، لذلك ما أن يبلغ أحدنا أشده حتى تكون لديه رغبة كبيرة في أن يصبح بحاراً. كان عمري عندما قررت العمل على ظهر السفن خمسة عشر ربيعاً، وهو سن لا يؤهل للعمل غواصاً، لذلك عملت نصف سيب، والفرق بين الاثنين أن نصف السيب يأخذ نصف ما يتسلمه السيب من مال نظير عمله». يكون النواخذة -وهم ربابنة السفن وقتها- أكملوا عدة السفر والغوص على ظهر مراكبهم، إذ تكون سفنهم جاهزة وطاقمها متكامل وكل ما يتعلق بها متوافر، فتبدأ الرحلات طوال أربعة شهور بين الذهاب والإياب بهدف أساسي هو البحث عن اللؤلؤ إلى جانب السمك الذي يعتاش منه البحارة أنفسهم في عرض البحر، لذلك ما أن نصل إلى منطقة يغوص الغواصون فيها ويخرجون بالمحار فلا يجدون فيه شيئاً من اللؤلؤ حتى يأمر النوخذة برفع السن بقوله «فوق فيتعاون على رفعه ثلاثة من الرجال الأشداء، لتتجه السفينة إلى منطقة أخرى، ويشير السيد علي إلى أن عدد العاملين على السفينة يختلف بحسب سعتها، فقد يكون عدد الغواصين عشرة وأحياناً اثني عشر ويصلون إلى عشرين غواصاً، بينما يكون عدد السيب متجاوزاً لعدد الغواصين، هذا إلى جانب النهامين الذين كانت أصوات غنائهم وهم يغنون الزهريات مهمة في تيسير العمل بدقة ونظام، وصباغ السفينة والنوخذة الذي هو صاحب السفينة والمال والمشرف العام على العمل، لكن المعتمد في العمل هما الغواص والسيب، فأما الغواص فإنه يضع «الشباص» على أنفه اتقاء لدخول ماء البحر إليه، ويمسك بـ»الديين» ويغوص في البحر بحثاً عن اللؤلؤ وعن الأسماك في «القرقور» حتى إذا خرج جمع البحارة المحار وبدؤوا بفتحه فإن ظهر منه لؤلؤ أعطوه للنوخذة وإلا فانصرفوا إلى أعمالهم في حين يتناول الطباخ السمك فيجهزه للوجبات والباقي يعمل منه «حلا»، بينما يقوم السيب بالإمساك ومراقبة الحبل المربوط في إبهام الرجل اليمنى من الغواص كي لا يغرق. فمعنى ذلك اختناق الغواص في عرض البحر وموته، وفي الغالب لا يترك السيب مكانه إلا متى ما أمره المجدمي أو النوخذة بعمل آخر، فهو غير مسؤول عما يحدث بعد ذلك، فلم نكن لنحدث المشكلات ولم نكن لنفكر في أن أحدنا ترك الحبل عمداً أو بقصد القتل، فقد كانت القلوب وقتها قلوباً مؤمنة موكلة أمورها لله سبحانه. ويذكر السيد علي أن العمل كان ينتهي مع اقتراب أذان المغرب، بعدها يكون أكثرنا قد أخذ منه التعب كل مأخذ لذلك يبادر بالنوم على «خيش» أو بساط بسيط، وآخرون وهم قليلون يجتمعون عند «التفر» في مؤخرة السفينة، ويتابع السيد علي حديثه متعرضاً لبعض ملابسات حياة البحارة «كان لباس البحارة ما عدا النوخذة الذي يلبس الثوب تحته إزار، بل كنا جميعاً نحاول ما أمكننا مقاومة المرض لأن المرض على ظهر السفينة كان شاقاً جداً، ولهذا كان النواخذة يختارون الأجسام القوية القادرة على مقاومة الأمراض، وهذا كلام يدل على شدة وقسوة النوخذة في التعامل مع البحارة المرضى. فهنا لا يكون أمام النوخذة مفر من العودة إلى الديار لإرجاع المريض إلى بيته، والحقيقة أن رجوع المريض إلى بيته جراء تدهور صحته كان في صالح البحارة الآخرين، الذين يستطيعون بهذه العودة رؤية عوائلهم بعد انقطاع، إذ غالباً ما يهب النوخذة يوماً إلى البحارة للركون إلى بيوتهم وعوائلهم، إذ لم تكن هناك راحه لمن كان على ظهر السفينة وإنما كدح وتعب، ولكن متى ما كانت هناك رياح شديدة يخشى منها على السفينة وعلى البحارة، يذهب بالسفينة إلى البندر. لذلك ما أن يلمح البحارة الغيوم، والأمر منوط هنا بالنوخذة الذي يحكم رأيه في أحيان كثيرة ويكمل العمل أو يأذن براحة قصيرة، كانت تلك بعض الذكريات عن البحر سردها السيد علي السيد حسن الديري رحمه الله، فماذا عن الكتاب والباحثين؟! إن المكتبة البحرينية لاتزال تشكو قلة البحوث بهذا الخصوص، من أجل تأمين قوتهم وقوت عيالهم، والبحرين على وجه الخصوص بهذه الصور الرائعة من الكفاح الإنساني. صور لا تقل روعة عما كتبه الباحثون والروائيون الغربيون من تجارب إنسانية انتصرت على أهوال الطبيعة، لذاك حري بنا عندما يصدر كتاب جديد عن الغوص، وهو بمثابة عرض كامل لصناعة الغوص اشتمل على مقدمة وفصول، الفصل الأول تعرض إلى الاستعداد للغوص، وبحارة الغوص وعمل كل منهم، وأقسام السفينة وتطرق الفصل الثاني إلى «الركبة»، أنواع البريخة: البريخة على سدرة، بينما تعرض الفصل الثالث لعملية الغوص، أهمية الرقابة على حسابات الغوص، علاقة النوخذة بالبحارة، علاقة النوخذة بالمسقم، البحار المجزى والبحار القاصر، العمل بربع «المكدة»، والاطلاع على ما أمكن الحصول عليه من سجلات قديمة احتفظ بها بعض البحارة ونواخذة السفن وما عرض في متحف البحرين الوطني من وثائق تتعلق بموضوع الغوص وأنظمته وحساباته ودفاتره، «حديث الغوص ذو شجون وذكريات غالية عن أهم مورد للرزق في مملكة البحرين ومنطقة الخليج العربي عموماً قبل اكتشاف النفط، مشيراً إلى اعتماد سكان البحرين قبل اكتشاف النفط العام 1932 في حياتهم على ثلاثة مصادر رئيسة للرزق هي صيد اللؤلؤ والزراعة والتجارة، حيث كانت مهنة الغوص في ذلك الوقت هي المهنة الأساسية للغالبية العظمى من الرجال والشباب فقد بلغ عدد سفن الغوص العام 1930 الخارجة من البحرين 509 سفن يعمل عليها 19300 بحار، وهي سنة قريبة من العام الذي تدفق فيه النفط في مملكة البحرين وتحول نتيجة لذلك عدد كبير من البحارة إلى العمل في مهن أخرى غير ركوب سفن الغوص، وبلغ عدد سفن الغوص في البحرين العام 1896 حوالي 9000 سفينة يعمل عليها 35000 بحار حسب الإحصاءات التي أوردها «لوريمر» في كتاب «دليل الخليج العربي». وقد اشتهرت البحرين بجودة لألئها وجمالها وكبر حجمها بين سائر البلدان التي تنتج اللؤلؤ الطبيعي. إن البحرين -بحسب الشملان- كانت معروفة للعالم طوال الخمسة آلاف سنة الماضية، وعرفت في بادئ الأمر باسم دلمون ثم تايلوس ثم عرفت بعد ذلك باسم أوال وأخيراً باسم البحرين. وقد أدت ثروات البحرين -التي تعكس أهميتها التجارية والثروات التي تدرها صناعة اللؤلؤ التقليدية الرائجة آنذاك- إلى جذب اهتمام العديد من الجيوش والدول لتتنافس على السيطرة على هذه المنطقة الحيوية». يذكر الشملان معلومات مهمة نقتطف منها أن أول ذكر للغوص عن اللؤلؤ في التاريخ يظهر في ملحمة جلجامش قبل 3000 عام قبل الميلاد وأطلق عليه عيون السمك ، وكان الغواص البحريني استطاع عبر التاريخ بقدرته على أن يزين العالم باللآلئ الطبيعية الجميلة إذ خاطر بحياته وممتلكاته بركوب أمواج أعالي البحار ومحاربة عوامل الطبيعة والأهوال في البحث عن كنز مدفون في بحار وطنه، وانقرضت إلى حد كبير ولم يزاولها إلا 1% تقريباً وذلك بعد اكتشاف النفط العام 1932 ومنافسة اللؤلؤ الصناعي الياباني المستزرع. التي تقع شمال البحرين إذ أجمع تجار الجواهر على أن لؤلؤ البحريني يفوق سائر اللآلئ بهجة ونفاسة، ويصدر غالبية اللؤلؤ إلى مدينة مومبي بالهند ومنها إلى باريس بفرنسا. ويستشهد الشملان بما جاء في كتاب النبهاني «التحفة النبهانية في تاريخ الجزيرة العربية»، أن سفن الغوص أنواع منها السنبوك والجالبوت والبوم والبقارة والبتيل والبغلة، ويطلق البحرينيون على مجموعة من السفن «بالخشب» ويتراوح عدد سفن الغوص بين 3-4 آلاف سفينة، ويطلقون على اللؤلؤ قماشا والجواهر دانات فإذا مضى برج من فصل الربيع يخرجون في سفنهم حسب ما تسع من البحارة تحت رئاسة النوخذة ويسمون الغائص غيصاً والذي يجر حبل الغيص سيباً والمساعد يسمى رضيفاً والذي يكون أصغر من الرضيف يسمى تباباً». ويبين النبهاني أن كافة السفن تخرج إلى البحر في مواقع مختلفة العمق ويتخذ مالكو أو نواخذة السفن أسماء لسفنهم مأخوذة من الحياة مثل معدي الصقلاوي، وأكبر سفينة غوص في تاريخ البحرين كانت سنبوك وتعود إلى عائلة العمامرة بالمحرق يسمى «معدي» وقد تمت صناعته على شواطئ المحرق الغربية بالقرب من مدرسة الهداية الخليفية ويحمل على ظهره أكثر من 200 بحار، وترسو غالبية سفن الغوص على شطآن مدينة المحرق من البسيتين شمالاً حتى حالة بوماهر جنوباً وشرقاً حتى حي فريق البوخميس. وفي مدينة الحد توجد حوالي 200 سفينة وفي حالتي النعيم والسلطة 50 سفينة وفي قلالي 20 وفي سماهيج 5 سفن وفي عراد 5 سفن وفي الدير 3 سفن، وتتواجد سفن الغوص في مدينة المنامة والبديع والزلاق وعسكر وجو وتبعد المغاصات عن الشواطئ حوالي 30 ميلاً وعمقها يتراوح بين3-14 باعاً حوالي 20 متراً. لويمر في كتابة «وكيل الخليج. الجزء الجغرافي» أن في البحرين حوالي 20 ألف بحار يعملون بسفن الغوص وتجارة اللؤلؤ. وما ذكره الملاح العربي الكبير أحمد بن ماجد في أحد مؤلفاته عن المدن الساحلية أن في البحرين عدداً كبيراً من مغاصات اللؤلؤ وغالبية الناس يعملون في مهنة الغوص، وهناك ثمانية أنواع من محار اللؤلؤ في مياه البحرين الإقليمية وهي تنتمي إلى جنس بنكتادا وأكثر الأنواع شيوعاً وأهمية هما المحار والصديفي. ويطلق أهل الخليج العربي كلمة لولو على اللؤلؤ ولكن الكلمة الدالة والمستخدمة هي قماشة أو قماش للجمع، وكان سعر اللؤلؤ يختلف من وقت إلى آخر حيث يباع اللؤلؤ إلى الطواويش وهم تجار اللؤلؤ الذين يزورون السفينة وقت المغاص أو عند العودة. ويحصل كل من النوخذة (الكابتن) والغواص على ثلاثة أسهم بينما يحصل السيب على سهمين والرضيف على سهم واحد، اللون، والبدلة الحمراء من النوعية الممتازة ولكن غير منتظمة الشكل وهناك نوع واحد من اللؤلؤ الأصفر وهو النور (الأسطواني مدبب). الباحث بشار الحادي له إسهاماته القيمة في تاريخ البحرين رغم صغر سنه، يقول الحادي: إن أقدم سفينة شراعية وقفت على اسمها في تاريخ البحرين هي سفينة تسمى بـ(القرين) لوزير البحرين سنة 985هـ جاء ذكرها في (وثيقة عثمانية) مؤرخة في 25 رجب سنة 985هـ الموافق أكتوبر 1577 أنظر كتاب (الكويت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر) ص63 لمؤلفه خالد سالم محمد، كذلك ومن السفن المشهورة في تاريخ البحرين (الجابري) لعبدالرحمن الفاضل ذكرها الشيخ محمد بن خليفة النبهاني في كتابه «التحفة النبهانية في أحداث سنة 1225هـ (1810)، والشيخ راشد بن فاضل آل بن علي في كتابه «مجموع الفضائل» ص54. الحد 167، أم الشجر 12، أي أن 597 سفينة كانت تبحر من مدينة المحرق والقرى المجاورة لها وذلك من مجموع 917 سفينة في جميع أنحاء البحرين العام 1907، أما عن أطول السفن الشراعية، فإنه من أشهرها طولاً سفينة عبدالله بن إبراهيم السادة إذ كان يبلغ طولها 39 ذراعاً أو نحو 60 قدماً، غرق في شط كارون قرب المحمرة، وقد اشتهر بسرعته، كذلك رمزان، أنواع عدة ويبين الحادي أن أسماء السفن الشراعية في البحرين تتنوع إلى عدد كبير، والبصرة وغيرها. سويلم وغيرها. ووضحة وغيرها، والذيبة وغيرها، ومنهم من يسميها بأسماء تكون عبارة عن نعوت حسنة وذلك تيمناً بهذه الأسماء والنعوت مثل سمحان -وهو من أشهر الأسماء- ليكون سمحاً في سيره وانقياده، ومصارع مثلاً ليصارع الأمواج، ومزيون، وبشارة ليبشر بكل خير، وميسر وغيرها، وهناك من يسمي سفينته باسم كتاب من كتب العلم مثل: فتح الباري، إلى غير ذلك من الأسماء الكثيرة، وعندما سألت الحاج معراج بن جاسم المهيزع حول الآلية التي يتم من خلالها تسمية هذه السفن أجاب حفظه الله: إن كل شخص يسمي سفينته حسب ما يرغب ويشاء،