العطاء الفكري النسائي في الحضارات - أولا : الحضارة الهندية : تطورت الدراسة الهندية في القرن الخامس أو الرابع الميلادي على يد مجموعة من الباحثين يتقدمهم اللغوي المشهور " بانيني Panini وكان الدافع إلى هذه التوجه العلمي خدمة كتابهم المقدس لدى الهندوس وهو الذي كان ينعت آنذاك " الفيدا [ Vida ] وكان محور استقطاب الفكر اللغوي الهندي هو هذه المرحلة الفيدية حوالي القرن [1200-1000ق. الاهتمام الأصلي عندهم (1) . لقد درس الهنود الصوت وتجلى ذلك في أبحاث " باتيني " اللغوية التي أسهمت في تطوير المنهج العلمي لدراسة الأصوات في الثقافة اللسانية المعاصرة - درسوا الصوت المفرد و قسموه إلى علل وأنصاف علل وسواكن ، أصوات العلة والتضييق في إنتاج الأصوات الاحتكاكية. وبينوا بأنه إذا فتح ما بين الوترين الصوتيين ينتج النفس وإذا ضيق ما بينهما ينتج الصوت وبان النفس يحدث في حالة الأصوات الساكنة المهموسة. ولم يكتفوا بذلك بل تحدثوا عن المقطع وفصلوا فيه، القديمة وعدوه من خصائص العلل لا السواكن وقسموه إلى ثلاث درجات ولقي الدرس النحوي عندهم العناية الفائقة لأنه كان في الهند ما يقرب من اثنتي عشرة مدرسة نحوية مختلفة وأكثر من ثلاثمائة مؤلف في النحو ، النحوية ما يزيد على الألف ما بين الدراسات الأصلية والشارحة. وكان لكتابه المسمى" الأقسام الثمانية شهرة فاتت وغطت ما سبقه وما لحقه ، أهم مميزات النحو الهندي: 1- البدء بجمع المادة اللغوية وتصنيفها ثم استخلاص الحقائق منها مخالفين في هذا لليونانيين الذين بدأوا من الفلسفة وحاولوا تطبيق القواعد الفلسفية على حقائق اللغة . 2- أنه سبق النحو اليوناني في تحديد أقسام الكلام : ( اسم - فعل ، 4- عرف النحو الهندي الأعداد الثلاثة المفرد والمثنى والجمع . 5- قسم النحو الهندي الفعل السنسكريتي إلى ثلاثة أقسام بحسب الزمن وهي ماض وحاضر ومستقبل وقد نالت المعاجم اهتمامهم في شكل قوائم تضم الألفاظ الصعبة الموجودة في نصوصهم المقدسة والذي تطور لشرح معنى كل لفظ في القائمة وبعد عملهم هذا من قبيل: معاجم الموضوعات " و "معاجم المعاني (2) ثانيا: الحضارة اليونانية : لهذه الحضارة رصيد معرفي طلائعي في مجال الدرس اللغوي تميزت عطاء اتهم فيه بالسمة النظرية التي لا يمارس فيها ، يعول عليه في البحث اللساني المعاصر، م إلى 322 ق م ) والمدرسة الرواقية (1). ومما انشغل به اليونانيون في موضوع اللغة: هل اللغة أمر طبيعي أو عرفي ناتج عن اتفاق البشر وتواضع بينهم ، وهو الذي قسم الكلمة إلى : اسم وفعل وحرف ودرس مجالات لغوية كالجنس والبسيط والمركب وموضوع الإعراب ، ارسطو تقسيم أفلاطون للكلمة إلى : اسم - وفعل وأضاف إليها قسما ثالثا سماه : [رابطة . وأنتج اليونانيون في مجال المعاجم عددا ضخما منها ، الميلاد تمثل العصور الذهبية لهذه المعاجم بخاصة في الإسكندرية تذكر من أشهرها معجم . أبو قراط Hippocrate ألفه عام 180 ق. ثالثا : الحضارة الرومانية : لم تكن هذه الحضارة الوارث الشرعي تاريخيا للتراث اللغوي اليوناني بيد أنها طبعت هذه التراث بسمات الرومان الثقافية والحضارية ودفعت الحركة العلمية في الدراسة اللغوية وهو ما يبدو في البحوث الدلالية والبلاغية . رابعا : الحضارة العربية الإسلامية : لم تكن أقل شأنا من الحضارات السابقة سواء في النشاط الفكري بعامة أم في النشاط اللغوي بخاصة فقد كان للعرب جهود لامعة في مجال الدرس اللغوي نال إعجاب العلماء وتقديرهم ، نشأ هذا البحث اللغوي في ظل الثقافة العربية الإسلامية وفي إطار التحول الحضاري العميق الذي أحدثه القرآن الكريم في المجتمع العربي والإنساني كافة. ولقد تمحور هذا الجهد حول مدارسة القرآن الكريم في علوم نعتت بأنها العلوم الإسلامية : علم القراءات، إن الدراسة اللغوية عند العرب زخرت برصيد معرفي هائل له مكانته العلمية في الفكر النسائي المعاصر لأنه يمنك الشرعية العلمية في إطار الحضارة المحققة التي اعتمد عليها في تتميم الأسس المعرفية للنظرية اللسانية المعاصرة وهو وإن تمحور حول القرآن الكريم ليكون متسما بالبعد الديني ويتشرف بقدسية النص القرآني - كلام الله عز وجل - فإنه يحمل في عمقه أيضا الفضول العلمي والتطلع إلى إغناء الدراية المعرفية والعلم في بعده الإنساني الذي يأمر به التكليف في مقاصد الشريعة . ولكن قلة من المستشرقين درسوا تراثنا اللغوي حق درسه وقدروه حق قدره فهذا فيشر يقول عن عمل المعجم العربي : « وإذا استثنيا الصين فلا يوجد شعب آخر يحق له الفخار بوفرة كتب علوم اللغة وبشعوره المبكر بحاجته إلى تنسيق مفرداتها بحسب أصول العرب » (1) . . وبلدهم ذو شكل واحد ولكنهم داخل هذه الدائر يرمزون للفرق الدقيق في المعنى بكلمة خاصة» » ثم قال: (2) والعربية الكلاسيكية ليست غنية فقط بالمفردات ولكنها غنية أيضا بالصيغ النحوية بينما عبر الفيلسوف العالم ارنست رينان عن إعجابه بالعربية فقال: من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القوية ، التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها » » (13) وقد نالت الدراسة الصوتية عند العرب إعجاب هؤلاء المستشرقين وذهلوا أمام دقتها في الوصف والتقسيم الأمر الذي جعلهم يعتقدون افتراض اقتباسهم من حضارات سابقة كالإغريق والهند مثلما أشار في ذلك العالم اللغوي فولرز ] إلى بعض نقاط التماس بين [يانيني ] الهندي وبين العلوم الصوتية التي أنشأها أوائل النحاة العرب كالخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 170هـ) ونرى فكرة هذا التأثر ترجيحا ومزعما لا ثبت له لأننا نعده افتراضا وتخمينا لا يرقي إلى الصحة ولا يتوفر على الدليل والثبت المادي ، علم التجويد (علم القراءات كان مقترنا بعلم الأصوات وضبط مخارجها فتجد العلماء قد أدرجوا ضمن مصنفاتهم إلى جانب قواعد التلاوة فصلا أو مبحثا يتعلق بمخارج الحروف وطريقة نطقها وصفاتها وهو ما يمكن معاينته في كتاب النشر في القراءات العشر لابن الجزري مثلا وغيره من العلماء الذين ذكروا في مؤلفاتهم ملاحظات في الأصوات كالجاحظ في البيان والتبيين ] الباقلاني في [ إعجاز القرآن و ابن سنان في إسر الفصاحة ] وابن جني في [ سر صناعة الإعراب وكابن أبي مريم في كتابه [ الكتاب الموضح في وجوه القراءات وعللها] ، كأبي عمر بني العلاء (ت 154هـ) والكسائي (ت 189هـ) (1). وإذا كان الدرس الصوتي عند علماء اللغة المحدثين يمثل أول خطوة في أي دراسة لغوية لأنه يتناول أصغر وحدات اللغة وهي الصوت الذي يمثل المادة الخام للكلام البشري فإن اللغويين العرب لم يبحثوا الصوت يحثا مستقلا ولم ينظروا في البدء إلى الدرس الصوتي النظرة التي رأها المحدثون وإنما تناولوه مختلطا بغيره من البحوث ؛ ويعد ابن جني (ت 392هـ) أول مستعمل لمصطلح اللغوي الدال على هذا العلم الذي مازلنا علم الأصوات (1) وخصه ابن سينا الفيلسوف المشهور برسالة تعرف . نستعمله حتى وقتا أسباب حدوث الحروف ومن أهم نتائج الدراسة الصوتية لدى العرب: أ- وضع أبجدية صوتية اللغة العربية رتبت أصواتها بحسب المخرج بدءا من أقصى الخلق على الشفتين وأول واضع لذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 170هـ) تشمل تسعة ب تحدث العرب عن أعضاء النطق ومخارجها الأصوات بالتفصيل وصنفوا الأصوات بحسب مخارجها وهي ثمانية مخارج عند الخليل، سبعة عشرة كسيبويه ابن دريد وابن جني وعلماء التجويد ج - عرف العرب أن طريقة التحكم في الهواء عامة في إنتاج الصوت وقسموا الأصوات تبعاً لذلك إلى شديدة ورخوة ومتوسطية . د فصل العرب الأصوات المطبقة عن غيرها فهي الصاء الضاء والطاء والظاء. هـ - عرفوا الرنين الذي قد يصحب نطق الأصوات مثل الأصوات المجهورة وقسموا الأصوات بحسب هذا الرنين أو عدمه إلى مجهورة ومهموسة و - قسم العرب الأصوات إلى صحيحة ومعتلة. ز - عرفوا أقسام أصوات العلة فقسموها إلى قصيرة وطويلة وأطول (1) . وعلى أية حال ليس هذا مجال تفصيل الدرس الصوتي أو الصرفي أو النحوي عند العرب ولكننا نقول : أنه لم يعرف أي دراسة لغوية للعرب قبل الإسلام فهم مسبوقون من الأمم الأخرى التي ذكرناها بجهود راسخة قبل ظهور الإسلام بقرون. وبعد ظهور الإسلام لم تكن عنايتهم موجهة إلى البحث اللغوي لأنهم انشغلوا بتوجيه اهتمامهم أولا إلى العلوم الشرعية والإسلامية وحين فرغوا منها اتجهوا إلى غيرها من العلوم فقد ذكر السيوطي قوله: إنه منذ منتصف القرن الثاني الهجري بدأ علماء المسلمين يسجلون الحديث الشريف ويؤلفون في الفقه الإسلامي والتفسير القرآني، ‏Y_{J} نريد أن نبسط بعض القضايا قبل أوانها حين نسير إلى تطابق وجهات النظر بين بعض العلماء المدرجين في الدراسة مثل دي دسوسير، وبين ( الإمام عبد القاهر الجرحاني ) في بعض المسائل اللغوية . الجملة - موضوع تعلق الكلم بعضه ببعض - واهتم في كتابه (دلائل الإعجاز بالعلاقات القائمة بصورة متبادلة بين وحدات الكلام، وأكد معه بأن الهدف من اللغة لا ينحصر في إعلام السامع بمعاني المفردات وإنما اللغة وضعت للتواصل فهي ظاهرة اجتماعية لا فردية. (1) أما الدراسة اللسانيات عند دي سوسير في هذا الجانب فمن أول المبادئ التي أقام دراسة اللسانيات عليها هو حد الألسنة التي تتوخى الوصف والتاريخ (2) للغات التي تتمكن منها ، ومن حدها أيضا البحث عن القوى التي تعمل باستمرار في لغات العالم كلها ونريد من وراء ذلك أن نستخلص القوانين العامة التي يمكن أن تلتقي فيها اللغات تشترك فيها، وهذه الوحدات تركب بعضها ببعض بصورة تحقق غرض التواصل قال دي سوسير: «إنها منظومة من العلامات التي لا أهمية فيها لغير الوحدة بين المعنى والصورة السمعية ويكون فيه جزءا العلامة نفسيين أيضا (3) اللغة منظومة من العلامات التي تعبر عن فكره ما (4) نستنتج من كلامه بأنه يقر القيمة اللغوية للعناصر والوحدات التي تجمع بين المعنى والصورة السمعية . غرضها إعلام السامع خبرا يجهله ويقوم هذا النظام اللغوي على ربط الكلمات بعضها ببعض كما سبق وفقا لمقتضيات معينة في السياقات الاجتماعية بين المتكلم السامع والمخاطب ذات دلالات عقلية وبفضل هذا النظام تتمكن اللغة من أداء وظيفتها بوصفها وسيلة اتصال الناس بعضهم ببعض، وظيفتها في التبليغ والتواصل (1) وإذ كان عبد القاهر لا ينكر أن الفكر يتعلق أصلا باللفظة المفردة إلا أنه يؤكد أن الألفاظ أوعية للمعاني وهو هذا يربط المعنى بالفكر.