احتسى الشّيخ قهوتَه على مَهل، فمنذ وقت طويل أَصبح الأكل يضايقه، وقد كانت لديه قنينةُ ماءٍ في مُقدِّم المَركب، فهبطا في المَمرّ إلى المَركب، وانتشر الصّيّادون بعد أَن خرجوا من فَم المرفِأِ، وأحيانًا مستوطنات لسمك الحبّار في الأغوار العميقة، وبينما كانَ يُجدِّف، وفكّرَ في نفسه: «للطّيور حياةٌ أصعب من حياتنا، لماذا جُلِقَت بعض الطّيور ضعيفةً ورقيقةً جدًّا مثل خطاطيف البحر، وأحيانًا يتفوّه أولئك الّذين يعشقون البحر بأشياءَ سيّئةٍ عنه، أولئك الّذين كانوا يستعملون الطّوّافات لتعويم خيوطهم، أو تبخل بها في أحيان أخرى، كان يجدِّف تجديفًا متواصلًا، اليوم سأعمل بعيدًا خيث توجد مستوطنات أسماك (البونيتو) و(الباكور)، كانت إحدى قِطَع الطُّعم على عُمْق أربعين قامة، وكانت القِطعتان الثّالثة والرّابعة في المياه الزّرقاء على عمق مائة وخمس وعشرين قامة، وكلُّ سردينة قد رُبِطَت من كلتا عينيها بحيث كوَّنت نصف إكليل على الفولاذ النّاتئ، وهما اللّتان كانتا مُعلّقتَيْن بالخيطَيْن الأكثر عُمقًا مثل رُمّانتي ثقل، طولُ كلِّ واحدةٍ منهما أربعون قامة، ويمكن ربطهما بسرعة باللَّفّات الاحتياطيّة، بعث البخر المنبسط بأشعتها إلى عينيه لدرجة أَنَّها الَمته بحدّة، وقد حافظ عليها مستقيمةً أكثر ممّا يستطيعه أيُّ صيّادٍ آخر، جاهزًا لأيّة سمكةٍ تسبح هناك، ومن الأحسن أَن يكون المرءُ محظوظًا، جدَّف ببطءِ وثَباتٍ إلى حيث كان الطَّير يحوم، ثمّ وضع طُعْمًا على صنّارة ثانية، وفيما كان الشّيخ يراقب الطَّير، وهو يُميل جناحَيه إلى الأسفل مُطاردًا السَّمكات الطّائرة، ولكنَّه عاد يصفّق جناحيه بشدَّةٍ تصفيقًا غيرَ مُجدٍ، وتمكِّن الشّيخ من رؤية البروز الخفيف على سطح الماء الّذي سبّبته الدَّلافين وهي تلاحق الأسماك الهاربة. وراقب الشّيخ الأسماك الطّائرة وهي تنطّ من الماء مرّةً تلو الأخرى، إنّها تتحرّك بسرعةٍ كبيرةٍ وبعيدًا جدًّا، ولكنَّني رُبَّما ألتقط واحدةً ضالَّة، وكان لون الماء أزرق قاتمًا، رأى بقايا الكائنات البحريّة طافيةً على المياه الدّاكنة، وراقبَ خيوطه ليراها تمتدّ باستقامة إلى الأسفل حتّى تغيب في الماء، ولكنَّ الطَّير لم يعُد تقريبًا في مدى البصر الآن، وسمكة جولي سامّة كانت طافيةً بالقرب من القارب وقد انقلبتْ على جانبها ثمّ استعادت وضعها الصَّحيح، ولهذه الأسماك الصَّغيرة مناعة ضدّ سمومها، ولكنَّ النّاس ليست لهم تلك المناعة، فعندما يعلّق بعضُ تلك الأذيال بخيط، وأكلتها متتابعة جميعها، والسَّعيدة بالتهام مخلّفات الكائنات السّامّة وعيونها مُغمضة. وكان زيت الكبد هناك لكلّ من يُريده من الصِّيّادين، ولكنّه لم يكُن أسوا من النُهوض في السّاعات الّتي كانوا يستيقظون فيها، قال بصوت مرتفع: بينما كان الشّيخ يراقب الماء، وأخرى، وأَحسّ بضغط ارتعاش سمكة التّونة الصّغيرة وهي تسحب الخيط الّذي كان مُمسكًا به بشدّة، ازداد الارتعاش كلّما جذب الخيط إليه، لم يتذكَّر متى بدأ -أَوَّلَ مرَّة- بالتحدُّث بصوتٍ مسموع، - عادةً- يتكلّمان عند الضَّرورة فقط؛ كان عدم التّكلُّم غير الضَّروريّ في البحر يُعَدُّ فضيلة، قال بصوتٍ مرتفع: ولكن مادمتُ لستُ معتوهًا فلا يهمّني ذلك. الأغنياء عندهم المذياع يتحدَّث إليهم في قواربهم، وقال في نفسه: «ليس الآن وقتُ التَّفكيرِ بلعبة (البيسبول)، الآن وقتُ التّفكيرِ في شيءٍ واحد فقط، وهو ما وُلِدتُ أنا لأجله، فكلُّ شيءٍ يبدو اليوم على سطح الماء، أيمكن أن تكون لذلك علاقةٌ بمثل هذا الوقت من النَّهار؟ أم أنّه علامةٌ لطقسٍ وإنّما فقط قمم