قضى خالد بقية أيامه بعد عزله في مدينة حمص — زهاء سنوات أربع — لم يفارقها قليلًا إلا ليعود إليها. وعاش هناك بين أهله وولده وهم كثيرون. وكأنما كانت للموت ضريبة مقضية على هذا القائد الكبير يطالبه بها في حربه وسلمه حيث كان. وتعقب الموت أبناءه الذين بقوا بعد الطاعون وأشهرهم المهاجر من حزب علي وعبد الرحمن من حزب معاوية … فمات المهاجر في صفين ومات عبد الرحمن مسمومًا على ما قيل؛ وما هي إلا فترة حتى انقرضت ذرية هذا القائد الكبير — صاحب الموت والقدر — فورث دورهم بالمدينة أحد أبناء أخيه. وانتهت حياة خالد — رضي الله عنه — نهايتها العجيبة، والنهاية العجيبة لحياة مثله أن يموت على فراشه — كما قال — بعد أن شهد نيفًا وخمسين زحفًا في نجد والحجاز والعراق والشام، فإن كان قد ألم به مرض عارض غير مميت في جملة أطواره فلعله قد أتم ما بدأه الحزن على الأبناء، وذلك الاضطراب الذي كان يفزعه في نومه وينتقع منه لونه إذا غضب أو ثار. واجتمع بنات عمه يبكين فقيل لعمر: «أرسل إليهن فانههن. ولما سُئل عمرُ أن يعهد بعد موته قال: لو أدركت أبا عبيدة بن الجراح ثم وليته ثم قدمت على ربي فقال لي: لم استخلفته على أمة محمد؟ لقلت: سمعت عبدك وخليلك يقول: لكل أمة أمين وإنَّ أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، فليست سنوات العزلة بأخف السنوات وزنًا في سيرة خالد بن الوليد. فإن يكن خالد مخشيَّ المزاحمة على الخلافة في ظن من الظنون فليس هو بمخشيٍّ عليها وقد وصلت إليه معهودًا إليه خالصة من الزحام، وقد استحقها بعد أكبر مستحقيها وريض لها سنوات تجرد فيها من سورة الشباب وبعد ما بينه وبين نشأة الجاهلية، وقد عرفوه على هذه الصفة في ميدان حمص — ميدان السلم والتسليم — خير عرفان وأجدره بماضيه العظيم وتاريخه الخالد المقيم.