## كاليات البحث في تاريخ فلسطين الحديث: عرض حالة في سياق الدراسات والأبحاث العلمية التي تناولت تاريخ العرب الحديث في المرحلة العثمانية، بات حقل التاريخ الفلسطيني يحتل مكانة لا يستهان بها ويحظى باهتمام متزايد من الباحثين. تُسلّط هذه المداخلة الضوء على حالة البحث في تاريخ فلسطين الحديث خلال العقود الثلاثة الأخيرة، من زاوية بعض الإشكاليات التي واجهها ولا تزال ماثلة أمامه. **تطور البحث في تاريخ فلسطين خلال العهد العثماني:** ركّزت الدراسات والأبحاث في ثمانينات القرن العشرين بشكل كبير على القرن التاسع عشر، وخاصة النصف الثاني منه. تركزت الدراسات في هذا العقد، ولا سيما في حقل التاريخ السياسي، على العقدين الأول والثاني من القرن العشرين. يعتبر محمد عدنان البخيت أول من دعا منذ عام 1978 لدراسة القرن الثامن عشر من مختلف جوانبه، لِفهم حركة الإصلاح والتجديد قبل أن تهب رياح الحضارة الأوروبية على المجتمع الشامي الإسلامي، لتتركه على مفترق الطرق. انتظرنا حتى النصف الثاني من تسعينات القرن العشرين كي نطلع على بعض الأبحاث الجادة التي عالجت تاريخ فلسطين في ذلك القرن، أو انطلقت منه. أما القرنان السادس عشر والسابع عشر، فصدر عنهما عدد من الدراسات باللغة الإنكليزية، من تأليف كتاب إسرائيليين بشكل أساسي. لم تتح لي فرصة الاطلاع عليها، إلا أنني اطلعت على دراسة واحدة باللغة العربية نشرتها الأستاذ عبد الكريم رافق، في القسم الثاني من "الموسوعة الفلسطينية"، بعنوان "فلسطين في عهد العثمانيين (١): من مطلع القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي إلى مطلع القرن الثالث عشر الهجري/التاسع عشر الميلادي [١٥١٦ - ١٨٠٠]". **مصادر البحث في تاريخ فلسطين الحديث:** لوحظ في العقود الثلاثة الأخيرة بروز توجه ثابت بين الباحثين نحو الرجوع إلى المصادر الأولية والاعتماد عليها. شهدنا ميلًا متزايدًا إلى الرجوع إلى سجلات المحاكم الشرعية المتوفرة، والتي اعتمد عليها، على سبيل المثال، عبد الكريم رافق في دراسته عن غزة، ومحمد عدنان البخيت في دراسته عن حيفا، وبهجت حسين صبري في دراسته عن القدس، وبشارة دوماني، ومن قبله أكرم الراميني، في دراستهما عن نابلس. يُعدّ عبد العزيز محمد عوض، في بحثه عن متصرفية القدس، من أوائل الباحثين الذين لجأوا إلى الوثائق العثمانية المحفوظة في أرشيف رئاسة الوزراء في إسطنبول. لجأ باحثون آخرون إلى دفاتر الأراضي وإحصاءات السكان العثمانية، بالإضافة إلى الكتب السنوية العثمانية. أبرز عادل مناع، في كتبه عن أعلام فلسطين وعن تاريخها الحديث في أواخر العهد العثماني، أهمية الأوراق العائلية الخاصة كالمصدر أولي رئيسي. سلط وليد الخالدي، ومن بعده عصام نصّار، الضوء على مصدر جديد وفريد لدراسة هذه المرحلة، وهو الصور. كان ألكسندر شولش سباقاً إلى الرجوع إلى تقارير القناصل وسجلات وزارات خارجية الدول الأوروبية. بالإضافة إلى هذه المصادر كلها، تكشفت خلال هذه الأعوام أهمية المعلومات المستقاة من المشاهدات العينية، والتي تضمنتها مذكرات الرحالة وكتبهم. **إشكاليات البحث في تاريخ فلسطين الحديث:** **من أين نبدأ؟** تتعدد إجابات الباحثين عن سؤال: من أين يبدأ تاريخ فلسطين الحديث؟ يرى ألكسندر شولش أن الفترة بين سنة ١٨٥٦ وسنة ١٨٨٢ تمثل فترة تحولات حاسمة في تاريخ فلسطين، على الصعيدين الاقتصادي - الاجتماعي والسياي - الإداري، ساهمت مساهمة بارزة في وضع أسس فلسطين "الحديثة". انطلق عدد من الباحثين، ومنهم نبيل بدران وجاك قبنجي وأسعـد أتـات ومـاهر الشريف وتمار غوجانسكي، من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، معتبرين أنه شهد بروز ديناميكية وعلاقات وممارسات اجتماعية جديدة نجمت عن إصلاحات الحكم العثماني، وعن تسارع تغلغل رأس المال الأوروبي. اختار عادل منّاع، في كتابه "أعلام فلسطين في أواخر العهد العثماني (١٨٠٠ - ١٩١٨)"، مطلع القرن التاسع عشر كنقطة انطلاق لعدد من التحولات الجذرية التي شهدتها فلسطين. في كتابه الثاني "تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني ١٧٠٠ - ١٩١٨ (قراءة جديدة)"، بدأ من مطلع القرن الثامن عشر، متسائلًا عن صحة تحديد حدث أو تاريخ دقيق لبداية تاريخ فلسطين الحديث، ليصبح فاصلاً بين ما قبل وما بعد ذلك الحدث أو التاريخ. أكّد بشّارة دوماني، في دراسته عن أهالي جبل نابلس، أن انطلاقه من مطلع القرن الثامن عشر يهدف إلى وصّل "ما قطعه الفصّل المصطنع بين مرحلتين من مراحل تاريخ فلسطين العثماني". **التواصل والانقطاع (التقليد والتحديث)** قبل تناول هذه الإشكالية في حالة فلسطين، نُقدم الملاحظات التمهيدية العامة التالية: * لا يُمكننا تجاهل الافتراض القائل إن الولايات العربية كانت في عهد العثماني تغطي في سبات عميق قبل أن يوقظها التدخل الأوروبي وسياسة الإصلاح العثمانية. * إشكالية التواصل والانقطاع، أو التقليد والتحديث، هي أكثر تعقيدًا من مجرد اختزالها إلى ثنائية إما هذا وإما ذاك. * منذ القرن الثامن عشر، بدأت تتجمع عوامل كانت في وسعها إطلاق نهضة اقتصادية واجتماعية عربية معتمدة على الذات، قبل أن يقطع التدخل الأوروبي، اعتبارًا من حملة نابليون بونابرت، طريق التقدم أمام المجتمعات العربية. **الحالة الفلسطينية:** يسعى بشارة دوماني، في دراسته "إعادة اكتشاف فلسطين: أهالي جبل نابلس ١٧٠٠ - ١٩٠٠"، إلى إبراز ديناميات "الحياة البروفنسالية" في بقاع الداخل العثماني الواسعة، ودحض افتراض الانقطاع التاريخي القائم على تقسيم تاريخ فلسطين إلى مرحلتين: تقليدية وحديثة. يحاول دوماني أن يبين كيف أن كثيرًا من المؤسسات والممارسات، التي تترابط عادة مع ما يُسمى التحديث والتحول الرأسمالي، كان قائماً في جبل نابلس قبل ما يُفترض أنه تاريخ إدخالها على يد الاحتلال المصري، أو "التنظيمات" العثمانية أو التوسع الأوروبي والاسـتيطان اليهودي. **التحولات الرأسمالية في فلسطين:** نختلف مع دوماني في الموقف من طبيعة التحولات الرأسمالية التي طرأت، في تلك الفترة، على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في فلسطين، بفعل سياسة الإصلاح العثمانية وتوسع التدخل الأوروبي. صحيح أن هذه التحولات لم تكن نبتة غريبة مقطوعة الجذور عن الماضي، إلاّ إنها كانت مختلفة تمامًا، من حيث نوعيتها ونتائجها، عن كل ما سبقها ومهّد الطريق أمامها. تشير الزيادة التي طرأت على عدد سكان فلسطين، من ٢٨٠٬٠٠٠ نسـمة في مطلع القرن التاسـع عشـر، إلى ٦٠٠٬٠٠٠ نسمة في نهايته، إلى تطور الأوضاع الاقتصادية وتحسن الأحوال الصحية. تشهد فلسـطين، اعتبارًا من سـبعينات القرن التاسـع عشـر، استخدام المحركات في الري، والمحراث والمنجل الحديثين والحصـادات والأسـمدة في الزراعـــة، والمحرك البخـــاري في طحن الحبوب، بـــالإضـــــــــــــافـــة إلى التطور الـــذي شـــــــــــهـــده الوضعان التعليمي والثقافي. **تحول المال إلى رأس المال:** لا يكفي الحديث عن تحول المال إلى رأس مال، على اعتبار أن مثل هذا التحول يحتاج إلى جملة من الشروط، مثل توفر غطاء قانوني يشرعن عملية تحول الأرض إلى سـلعة، ويحمي حقوق أصحابها في ملكيتها وفي تداولها كسـلعة، وهو الأمر الذي لم يحدث إلاّ في ضوء سياسة الإصلاح العثماني وبعد صدور عدد من القوانين، مثل قانون الأراضي لعام ١٨٥٨، وقانون نظام الطابو لعام ١٨٦١، وقانون تملـك الأجـانـب للأرض لعـام ١٨٦٧. **الهوية وتبلور الوعي الوطني الحديث:** تُعتبر فلسطين وحدة إدارية وسيايـة قائمة بذاتها طوال العصر العثماني، وإنما كانت تُشكل، بمختلف مناطقها، جزءًا من بلاد الشام. **تشكل الهوية الفلسطينية:** يُرجّع البعض تشكل الهوية الفلسطينية وبروز الوعي، أو الولاء، الوطني، بين السكان الفلسطينيين إلى القرن التاسع عشر، ويربطه بمحاولات ومشاريع التوحيد الإداري للمناطق الفلسطينية، وخصـوصـ ًا حول منطقة القدس. يرى عادل مناع أن تاريخ فلسطين طغى عليه الاتصال، انسـجاماً وتعاوناً أحياناً، وتنافسـاً وتناحراً أحياناً أُخرى، على الرغم من أنها كانت طوال العهد العثماني بلداً مقسـماً إلى ألوية إدارية متعددة، لا وحدة سيايـة واحدة. يُعتبر بطرس أبو منّه، في تقديمه لكتاب مناع الأول: "أعلام فلسطين في أواخر العهد العثماني (١٨٠٠ - ١٩١٨)"، أن قيام الباب العالي بفصـل متصـرفية القدس عن ولاية سـورية سـاعد "في تبلور فكرة كيان فلسـطيني خاص". يرى ألكسندر شولش، أن فلسـطين اتخذت ببطء، خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، "شـكلاً محدداً في وعي سـكانها ووعي الحكومة المركزية [العثمانية] أيضـاً". **الوعي الوطني الحديث:** لا أعتقد أن في الإمكان الحديث عن وعي وطني حديث في مناطق فلسـطين قبل انفصـال حقل العلم عن حقل الدين، وبروز التعليم الحديث "العلماني"، وتوفر فرصـة الاحتكاك بالأفكار الأوروبية، ونشوء أنتلجنسيا حديثة، وظهور الطباعة وانتشار الصحافة المطبوعة. **الحركة القومية العربية:** تطبع الوعي القومي العربي، الذي عبر عنه العرب الفلسطينيون الذين شاركوا في تأسـيس الأحزاب والجمعيات القومية الإصلاحية وانخرطوا في نشاطها، بطابع خاص، طابع الانتماء إلى أرض ووطن محددين، مع تزايد الشعور بالخطر الصـهيوني. **انقسام الحركة القومية العربية:** أدى مؤتمر "سان ريمو" إلى انقسـام الحركة القومية العربية الجامعة إلى جداول إقليمية، أصـبح لكل منها أهدافه الخاصة. **فلسطين الانتدابية:** لم يطغَ الوعي، أو الولاء، الوطني الحـديـث، الذي صــــــــــــار يعبر عن نفســــــــــــه في إطـار وحـدة إداريـة وســــياســــية قائمة بذاتها ومســــتقلة عن ســــورية، على مشـــــــاعر الســـــــكان الفلســـــــطينيين، وإنما ظل يشـــــــكّل، بارتباطه بالعروبة، مركباً من مركبات الهوية الفلسـطينية، إلى جانب ولاءات أُخرى، تعود إلى الماضي البعيد، وتنبع من الدين، والمنطقة، والعائلة. **خاتمة:** تظلّ إشكاليات البحث في تاريخ فلسطين الحديثة، مثل تحديد نقطة انطلاقها، والعلاقة بين التقليد والتحديث، وتبلور الهوية الوطنية، مواضيع معقدة تُحتاج إلى دراسة متأنية. تُساهم الأبحاث الحديثة في تسليط الضوء على جوانب جديدة من تاريخ فلسطين، ودحض الأفكار المسبقة حول تاريخها وتطورها.