حين زحفت قبيلة الرُّولة على مدينة الجوف واحتلتها، فخرج سعود بن رشيد من حائل مع جنده، فأشار بعض الناس على الملك عبدالعزيز بأن هذه هي فرصته السانحة للهجوم على حائل، والقضاء على ابن رَشِيد، فقال ـ رحمه الله ـ مستنكفا عن ذلك: "إن بيني وبين ابن رشيد عهد الله وميثاقه، ولا يمكن أن أتخلص من عهد الله الذي وضعته في عنقي إلا بعذر يقبله العقل والدين والخلق، حتى لو لم يكن بيني وبين ابن رشيد عهد، فإن ديني وخلقي وشيمتي لا تقبل أن أغزو بلدا لم يكن فيها إلا الأطفال والنساء".رحم الله الملك عبدالعزيز، فالمقاصد الحسنة والغايات السامية لديه لا يُتوصل إليها إلا بما يناسبها من الوسائل النبيلة السامية.وانظر إلى حسن وفائه حتى لمن أكرم أخاه، فإن الأمير محمد بن عبدالرحمن لما حج عام 1334هـ/1916م، أبى عليهم الشريف حسين بن علي، الدخول إلى الحجاز مدججين بالسلاح، فاضطروا إلى تسليم سلاحهم، ودخلوا الحجاز محرمين ملبين، ومروا في طريقهم بقرية يقال لها: "الزِّيمة"، وتعرفوا إلى شيخها عبدالرحيم القناوي؛ وأحضر لهم ما يحتاجون إليه من الطعام والإبل بالثمن، فذهبوا إلى الحج، وفي عودتهم أيضا قدم لهم جميع التسهيلات اللازمة كما هو شأن العرب، ثم إنه لما تم للملك عبدالعزيز ملك الحجاز، ومر بـ"الزِّيمَة" في طريقه إلى نجد، قابلهم شيخها عبدالرحيم القناوي، ذكر الأمير محمد لأخيه الملك ما كان من القناوي في تلك الأيام الغابرة التي ناصبهم فيها الحسين العداء، ولم يجدوا من يحتفل بهم آنذاك سوى عبدالرحيم القناوي، فشكر الملك للقناوي سابق صنيعه، وأمر له بمبلغ 25000 ريال، وصارت عادة للقناوي أن يضيف الملك في كل عام، ويحصل على المبلغ المذكور، ثم لما عدل الملك عبدالعزيز عن ركوب السيارات، واختار الحضور إلى الحجاز بالطائرات، قال القناوي لجلالته: أرجو ألا تغيروا عادتكم، بل أحضر لي ضيافتك إلى هنا، وأمر ألا تُقطع عادته بصرف المبلغ المعهود للقناوي، وصارت عادة سنوية جارية إلى ما شاء الله.ومن حسن وفائه ـ رحمه الله ـ: ما فعله مع إسماعيل بن مُبَيْريك أمير رابغ؛ الذي حظي بالمنزلة الرفيعة لدى الملك عبدالعزيز، والسبب في ذلك أنه كان قد سهل للملك عبدالعزيز سبل الاتصال بالخارج عبر مينائه في أثناء حروبه حول جدة،ومما يدل على ذلك الوفاء أيضا: أنه لما وصل إلى الكويت زائرا، سمع أن معلما له - كان يقرأ عليه القرآن في أيام الطفولة - موجود بها، فاستدعاه ولاطفه ومنحه ثلاثة آلاف روبية.ومن الأدلة التاريخية الجلية على تقدير الملك عبدالعزيز لمعنى الوفاء: ما فعله مع الملك فاروق ملك مصر آنذاك، فبعد قيام ثورة يوليو 1952، كان الضباط الأحرار حريصين على معرفة رأي الملك عبدالعزيز فيما قاموا به من أعمال ثورية، وجاءهم الرد على لسان الأمير فيصل ـ رحمه الله ـ بأن الملك عبدالعزيز، لا شأن له فيما يتصرف به الضباط في شؤون بلادهم، أما الملك فاروق فلن يتخلى عنه الملك عبدالعزيز متى طلب منه دعما، إذ إن شيمهُ تفرض عليه ألا يترك صديقا له في محنته.لقد ضرب الملك عبدالعزيز أروع المثل بهذه الأخلاق العالية، فهو يستعرض دوما ماضيه، ويحرص على مكافأتهم على ذلك بأكثر مما كانوا يتوقعون، فكم من رجال برزوا وارتقوا وأُفسح لهم المجال لأعمال جليلة أدوها للبلاد وأهلها، ولم تكن وسيلتهم إلى ذلك غير إخلاصهم للملك من قبل.