إنك الآن تدرس في إنجلترا بعد أن أتممت دراستك في مصر، ولكن يمكن تقسيمهم إلى مجموعات محددة واتجاهات معينة. فمنهم من شعر بأن حريته في مصر كانت مفقودة، فقد تحرر من رقابة الأبوين ورقابة المدرسة، وأصبح أمير نفسه ليس عليه رقيب ولا حسيب ورأى مجال اللهو في أوروبا واسعًا فسيحًا (وأوروبا - على العموم - كفيلة أن تحقق كل رغبة وتوفر كل اتجاه، فمن شاء الجد فالأبواب أمامه مفتحة ومجال الجد لا حد له، من شاء اللهو فالأبواب أمامه مفتحة ومجال اللهو لا حد له) فانغمس في وسائل اللهو ووهبها كل ماله وكل تفكيره وكل وقته. ولا يرى جامعته ولا تراه إلا محافظة على الشكل وحرصا على استجلاب المال من أبيه أو من حكومته أو منهما معًا، ويحتال على أبويه في تحصيل المال بكل وسيلة، ومن فرط مذاكرته محتاج إلى التردد على الطبيب، وأخيرًا تنكشف الأمور عن مأساة ويعود إلى بلده ولا علم ولا خلق، وقلما يصلح في مصر لعمل بعد أن فسدت نفسه ومات ضميره وذهب علمه وانحط خلقه. ومن الدارسين في أوروبا من كانوا على العكس من ذلك - وهم أقل عددًا. هؤلاء عكفوا على دروسهم بكل جد، ولم يعرفوا غير حجرتهم وكتبهم وجامعتهم وطريقهم من البيت إلى الجامعة، قد نقلوا حجرتهم في مصر إلى حجرة في إنجلترا أو فرنسا، وعملهم في مصر إلى عملهم هناك من غير فرق، ولكنهم لم تتفتح قلوبهم ولم ترق نفوسهم، وهناك طائفة ثالثة هي التي تعجبني وهي التي أحب أن تسير على منهجها. هؤلاء قد فهموا رسالتهم من بعثتهم على الوجه الأكمل - فهموا أنهم إنما سافروا ليدرسوا علمًا وليدرسوا خلقًا - يحضرون لنيل الدكتوراه ويحضرون لشيء أسمى من الدكتوراه، ويبحثون عن سر عظمة هذه الأمة ومواطن قوتها وضعفها والفروق بينها وبين مصر، وما يحسن أن تقتبسه مصر وما يحسن ألا تقتبسه، يتعلمون هذه الدروس من الحياة الاجتماعية في الجامعة ومن الحياة العائلية في البيت، ومما تقع عليه العين المفتوحة والقلب الواعي في الشوارع والحدائ والأمكنة العامة ونحو ذلك. فهو يرى أن في كل منظر درسًا وفي كل خطوة يخطوها فائدة. إذ ذاك تتجدد نفسه ويحيى قلبه وترتقي كل ملكاته ويصبح مخلوقا آخر جديدًا، ويعود إلى بلده وقد اكتسب علمًا كثيرًا وخبرة فائقة. تعلم من جامعته إلى جانب دروسه الخاصة أساليب التعليم في البلد الذي سافر إليه في مراحل التعليم المختلفة، وهكذا أمتع نفسه وقلبه وعينه في حدود المعقول، وكما اختلف المتعلمون في أوروبا هذا الاختلاف الذي شرحته اختلفوا كذلك في مسلكهم بعد عودتهم إلى بلادهم. فمنهم الذي عاد إلى بلاده يشيد بمجالي اللهو في أوروبا ويفيض في وصف مغامراته النسائية ويعرج على النماذج الوضيعة من ذلك كله في بلاده فيحتقرها، ويعلن أنه يتمنى العودة إلى النعيم الذي كان ينعم به في إنجلترا أو فرنسا. أما وقد حالت الحوائل بينه وبين عودته فهو ينتهب اللذائذ في بلاده على وضاعتها ما أمكنه مترقبًا اليوم السعيد الذي تتاح فيه الفرصة للسفر إلى الخارج حتى يعب من لذائذها وينهل؛ فإن كلف عملًا جديًّا فعلى هامش الحياة. أما نظرته إلى الحياة وانسجامه مع الحياة الأولى التي كان يحياها قبل سفره فلم يتغير منها شيء. ولكنه لما عاد إلى مصر فسرعان ما دب إليه اليأس . وما أصبح يعيش فيه في بلده من اضطراب وارتباك وظلم وقذارة. نيئس واستسلم وطوى نفسه على حزن عميق، وأصبحت حالته حالة من فقد عزيزًا عليه لا آمل في عودته وإنما يتسلى بذكراه. كل هؤلاء - يا بني - قد رأيت نماذج منهم، إنما أحب - إذا عدت وقد اكتسبت علمًا ونفسًا وقلبًا - أن تنظر إلى عيوب قومك فترحمهم، وتجتهد - ما أمكنك - في إصلاحهم فإن لم يمكنك الإصلاح العام، لو أن كل مبعوث إلى أوروبا تعلم ونضج ثم عاد ويئس لكان من الخير ألا يبعث؛ إن أكثر هؤلاء - يا بني - يتعللون بأنهم حاولوا الإصلاح فلم يفلحوا، ويطلقوا مثلهم الأعلى ويقتصروا على التملق لأخذ درجة أو الحصول على منصب؛ ولكني أعيذك بالله أن تكون واحدًا من هؤلاء الممسوخين الذي ردوا أسفل سافلين. ومع الأسف كان عدد هؤلاء الممتازين قليلًا، فلو نظرنا إلى عدد المبعوثين من عهد محمد علي للآن لوجدناهم يعدون بالآلاف ولوجدنا من أفاد منهم لا يعد إلا بالعشرات،