2- الجهود اللغوية في العصور الوسطى (476 - 1500م) يطلق مصطلح القرون الوسطى في الحضارة الغربية على المرحلة التاريخية الأوروبية الممتدة من 476م إلى حوالي 1500م؛ أي منذ انهيار الإمبراطورية الرومانية إلى بداية عصر النهضة الأوروبية، وتعرف القرون الستة الأولى التي تلت انحلال الإمبراطورية الرومانية بالعصور المظلمة. تميزت هذه المرحلة بظهور المسيحية وشيوعها الذي نتج عنه اتساع رقعة البحوث اللغوية؛ لأن الشعوب المختلفة التي اعتنقت الديانة الجديدة، قد شاركت في عملية التعليم والتأليف، ونظرا لتمسك الناس بالمسيحية وتعاليمها ظهر إلى حيز الوجود أدب لاتيني مسيحي يناهض الأدب الإغريقي الوثني. كما ظهرت ممارسات عدائية ضد اللغة الإغريقية وضد كل من يعلمها أو يتعلمها. اهتم علماء القرون الوسطى بالتفكير اللغوي اليوناني في حدود المنطق الذي هيمن على مختلف الدراسات. وقد استمر التفكير حول العلاقة بين اللغة والفكر، اهتمت الدراسات اللغوية في هذا العصر بوضع الشروح والحواشي للنصوص اللاتينية باللغات العامية المتنامية، وفيما يتعلق بالدراسات النحوية فقد التزم نحاة هذه المرحلة بتطبيق القواعد والنظريات التي توصل إليها علماء الإغريق، ولئن كان النحو قد عد فنا حرا ووسيلة للقراءة والكتابة، فإنه أضحى تابعا لعلم للاهوت، وبشكل عام فإن علماء هذا العصر كانوا يرغبون في إنشاء نظرية معرفية واحدة تكتسب بمقتضاها كل العلوم والفنون مبادئ فلسفية ودينية واحدة. كما عرفت هذه المرحلة بتثبيت ما يسمى اليوم بالقواعد التقليدية، ففي سنة 1199م ألف الاسكندري فيلاداي كتاب حمل متون شعرية في قواعد النحو اللاتيني، وذلك لتسهيل قواعد اللغة اللاتينية على الطلاب، كما ألف العالم الإيطالي دانتي كتابا تناول فيه اللهجات الإيطالية آنذاك والعلاقة القائمة بينها، وفي العصر الحديث أعجب جورج مونان بهذا الإنجاز الضخم وقال عنه: " إنه مصدر الدراسات العلمية للهجات الإيطالية في القرن الرابع عشر الميلادي". ظهرت الفلسفة السكولاستية والتي كانت سبب في انتعاش الدراسات النحوية والقواعد الفلسفية. فالسكولاستية فلسفة لغوية أوروبية ظهرت في القرون الوسطى واستمرت حتى أوائل عصر النهضة، وقد بنيت على المبادئ النصرانية ومنطلقات أرسطو الفكرية ومفهومه لما وراء الطبيعة. القديس توما الأكويني الذي حاول إقامة صلة عقلانية بين العقل والدين لتدعيم المسيحية. ويرى ليونز أن الفلاسفة السكولاستيين يُشبهون الرواقيين في اهتماماتهم باللغة باعتبارها أداه تساعد على تحليل بنية الحقيقة ووسيلة ضرورية لمعرفة الأشياء حق معرفتها. اتخذت الدراسات اللغوية في القرون الوسطى مجرى مغايرا بعيدا عن التأمل الكلاسيكي، وهو ما صرح به دي كورثري حيث قال: " إن النحو علم اللغة، وإن ميدان دراسته هو الجملة وتغيراتها، وإن هو التعيير عن مفاهيم العقل في جمل محكمة البناء"، كما نجد أن الكثير من اللهجات اللاتينية بدأت تبرز قواعدها وتنفصل. وقد نظمت قواعد النحو اللاتيني شعرا في القرن الثالث عشر، جديدا إلى القواعد اللاتينية التي وصل إليها القدماء، ولكنهم عرضوها بصورة أكثر إتقانا.