الفصل السياق البلاغي لقد تبين في القسمين السابقين أن ابن جني وقف على ظواهر جمالية وبلاغية في اللغة ، وكانت لوقفاته آثار في إرساء أسس تفكير أسلوبي تجلى على جهة الخصوص في تأويلاته لوسائل التعبير البلاغي . وإذا كانت همتنا في هذا البحث منصرفة نحو الكشف عما يختزنه تراث ابن جني النحوي من إمكانات التفكير البلاغي والأسلوبي ، فلا شك أن هذه الغاية لن تتحقق إلا إذا تنی تنا تعترف بعض المعايير التي وجهت تأويلاته اللغة ، وقد اصطلعنا على هذه المعايير أو الأصول بالسياق » ، وهو بشكل أظهر المعايير التي بني عليها تأويلاته للسمات الأسلوبية في الشعر والقراءات القرآنية . ولاشك أن استخدامنا لمفهومي السباق والتأويل في هذا الباب يتطلب الكشف عن مدلولیهما في إطار تفکیر ابن جني البلاغي الذي نسعى إلى إعادة صياغته في هذه الدراسة . 1- السياق والتأويل ورد السياق عند البلاغيين القدامى بلفظ « مقنفی الحال ، وكان مفهوما يشمل -حسب تحديد السكاكي - المرجع الخارجي ( فمقام التهنئة غیر مقام التعزية ومقام الترغيب غیر مقام الترهيب الخ ) وغط التلقي ( مقام الذكي غير مقام الغبي ) والسياق اللغوي الداخلي « فلكل كلمة مع صاحبتها مقام ۔ ويرى أحمد المتوكل ، أن التفكير العربي القديم حول المعني ، وهي ذات صلة بإنتاج الملفوظ : أ- المقال ويترادف مع الكلام ب - المقام ( أو الحال ) ويشير إلى الموقف الذي ينتج فيه الملفوظ ج- الغرض ( أو القصد والمراد ) ويشير إلى ما ينوي المرسل بشه بواسطة الملفوظ الذي ينتجه . هذه بعض خصائص السباق على نحو ما حددها بعض الباحثين في الحقل اللغوي ، ولعلها أن تأخذ بيدنا في تحديد العناصر السياقية التي اعتمدها ابن جني في تأويلاته للشعر والقراءات القرآنية . هكذا نلاحظ أنه قد يفيد عنده « قصد المتكلم ؛ فقولنا : ( أشرب ماء البحر ) يكون مستحيلا إذا ما أريد به الحقيقة ، وتتمثل استحالة الأقوال ، مثال ذلك : ( أشرب ماء البحر ) . وقد تتمثل في مخالفتها لأصول الكلام في الأخبار ، مثال ذلك أحق الناس بمال أبيه ابنه ) ، وجرى هذا مجری قولنا : ازيد زيد » و القائم القائم ، حيث لا يستفاد من الجزء الثاني إلا ما في الجزء الأول ؛ وهذا مخالف العقد الأخبار إن استحالة الأقوال السابقة قائمة مادام القصد في ذلك ظاهر الكلام ، أما إذا انطوى القول على فصد إلى المجاز أو غرض يراد تبليغه ، مثال ذلك قول الشاعر : أنا أبو النجم وشعري شعري وقول الآخر : بلاد بها كنا وكنا نحلها إذ الناس ناس والبلاد بلاد وقول الآخر : هذا رجائي وهذه مضرعامرة وأنت أنت وقد نادیت من کتب حيث يرى ابن جني أن هذا مما يحمل على معناه دون لفظه ؛ أي إن القصد من هذه الأقوال وظيفتها المجازية لوجود أغراض يراد توصيلها ؛ فهذه الأغراض سوغت استخدام المشاعر لما لا فائدة وراءه : " وكأنه إنما أعيد لفظ الأول لضرب من الإدلال والثقة بمحصول الحال إن للسباق دورا حاسما في تحديد معنى الكلام ؛ كما يقدمه ابن جني ، فقد يضع المتكلم اللفظ على أصل وضعه في اللغة من العموم ، وقد يستخدم وضعه الاستعمالي الخاص على جهاز المجاز ويتمثل أيضا في الغرض ، حيث تصير المعرفة بهذا الغرض المراد ضرورية من أجل تسويغ الكلام والوقوف على طاقته البلاغية ، وهذا الغرض يفهم في مقام ما ، وهو الموضع الخارجي أو الحال التي شهدت على معنى الكلام . هذا الوعي لازم -فيما يرى ابن جني- لأجل حصول تأویلات صحيحة لآي القرآن الكريم ، يؤهل المتخاطبين للتأويل الصحيح والفهم السليم ؛ وقوله : ( ویبقی وجه ربك ) وغيرها من الآيات الكريمة الجارية هذا المجرى ، على أنها من قبيل المجاز لا الحقيقة ، أي ما تحمله من خصوص الاستعمال ، وقلما يخرج الشيء منها على الحقيقة . جرى خطابهم بها مجرى ما يألفونه ، وعاداتهم في استعمالها . إن الوعي بأعراف اللغة وعاداتها ومذاهبها و أنحائها وسيلة لتحديد المعنى ؛ والقرآن الكريم الذي خاطب أهل العربية الذين اعتادوا التخاطب بالمجاز ، راعي هذه المعرفة فنزل مستخدما طرقهم في التعبير . ولعل هذا ماحمل أبا عبيدة على تأليف كتابه في المجاز القرآن » مثبتا أن في القرآن مثل ما في الكلام العربي من وجوه الإعراب ومن الغريب والمعاني ومن ضروب الاستخدام المجازي أو البلاغي للغة . والمقصود إليه . إننا نتلقى اللغة بما تختزنه ذاكرتنا من ودائع أصلها هذه اللغة نفسها التي تعلمناها وأصبحنا نفكر بها . وبذلك فهي تشكل سباقا نصدر عنه في تأويلاتنا وأحكامنا التقويمية . وكما أن السياق الاستعمالي للغة يتحكم في تأويلنا لظواهرها ، فقد أقر ابن جني بأن المجاز إذا كثر لحق بالخفيفة ، حيث تغدو مماثلة لأي ترکیب حقيقي إن الكثرة التي كانت وراء إلحاق المجاز بالحقيقة ، وهذه النظرة تفيد أن كثرة الإمكانات الفنية تكون حيث قلة الاستعمال ، وتلاشي هذه الإمكانات حيث الكثرة . حيث يشكل هذا كله خلفية يستند إليها في استجابته لمايبدعه الشاعر من صور شعرية أو في عدم حصول هذه الاستجابة وكان ابن جني في تأويله للصور الشعرية لا يكتفي بالبيت الذي وردت فيه ، بل قد يستدل عليها بأبنات أخرى من سياق القصيدة 10 . ولا نروم بهذا التعقيب القول إن ابن جني نظر إلى الصورة الشعرية في سياق النص ، ومع ذلك وذلك أنه في تأويله لظاهرة الحذف كان يشترط وجود دليل 12 عليه ، أو متمثلا في معنی قائم في سياق النص الكلي الذي ينتمي إليه هذا النموذج . وقد عبر الفراء عن هذا المفهوم بوضوح عندما وقف على حذف الجواب من جملة الشرط في الآية الكريمة : « إذا السماء انشقته حيث قال : والجواب كالمتروك ؛ لأن المعني معروف قد تردد في القرآن معناه فعرفوا . ويمكننا صياغة خصائص السباق على نحو ما تجلت لنا في تراث ابن جني الفكري حول اللغة في المقومات الآتية : - قد يتمثل السياق عند ابن جني في اقصد المتكلم في تسخيره للمادة اللغوية المتاحة له . - يتحدد السياق عنده أيضا في الغرض الذي يروم المتكلم تبليغه . ولأجل اقتراح صباغة حديثة لطبيعة تشغيل معيار السياق في التأويل عند ابن جني ، ج - سياق التلقي وأما استخدامنا للفظ « التأويل في هذا الباب فتسوغه طبيعة تفكير ابن جني نفسه حول اللغة العربية ؛ فقد كانت الغاية التي حددها لبحثه في خصائص هذه اللغة من أجل إثبات حکمتها ونظامها الدقيق ، تقتضي ولقد كان ابن جني يؤول اللغة سعيا لاكتشاف أسرارها وكنه إيداعها ، وكان التأويل الحاذق مرادفا عنده لعبارة املاطفة الصنعة ، في مقابل التأويل المتعجرف والمتعسف . ومن معاني التأويل إرجاع الشيء إلى أصولها وأسبابه الحقيقية وذلك لاكتشاف دلالته زمغزاها ، إن التأويل حركة موجهة بالعقل والرأي في المقام الأول ، وإن اعتمد « النقل » أو « الرواية » ؛ فالعمل الذهني هو ما يميز كل نشاط تأویلي ، حيث يحضر المتلقي بوصفه ذاتا فاعلة في تشكيل الظواهر ، دون أن يفيد ذلك غياب الضوابط والمعايير عن مفهوم التأويل ويمكننا إيجاز مسوغات استخدام مصطلح « التأويله في هذا الباب على النحو الآتي : وهذا المعنى ينطبق على العمل الذي قام به این جني نحو اللغة العربية ، إذ كان بحثه في خصائصها يتغيا الكشف عن الأصول والمعادن للوقوف على حكمة اللغة وأسرارها . - التأويل نشاط ذهني يضطلع به المتلقي في فهم الظواهر وتشکلها ، واللغة العربية باعتبارها إحدى هذه الظواهر ، وقد كان ابن جني يعيد هذا في أكثر من موضع من كتابه . بل قد يتجه إلى العبارات المحتملة لمعنى واحد ، ولكنه لا ينكشف لأول خاطر . - التأويل هو المصطلح العربي القديم الذي يعبر بصورة دقيقة عما قام به ابن جني بإزاء الظواهر اللغوية والبلاغية التي واجهها في الشعر .