سكن الغرفة العليا من المنزل المجاور لمنزلي من عهد قريب فتًى في التّاسعة عشر أو العشرين من عمره، وكانت على كثب من بعض نوافذ غرفته فأرى أمامي فتًى شاحبًا نحيلًا منقبضًا جالسًا إلى مصباح منير في إحدى زوايا الغرفة ينظر في كتاب أو يكتب في دفتر أو يستظهر قطعة أو يعيد درسًا فلم أكن أحفل بشيء من أمره، حتى عدت إلى منزلي منذ أيام بعد منتصف ليلة قِرّة من ليالي الشتاء فدخلت غرفة مكتبي لبعض الشؤون فأشرفت عليه فإذا هو جالس جِلسته تلك أمام مصباحه، فما رمت مكاني حتى رفع رأسه فإذا عيناه مخضلّتان من البكاء، وإذا صفحة دفتره التي كان مكبًّا عليها قد جرى دمعه فوقها فمحا من كلماتها ما محا، فأحزنني أن أرى في ظلمة ذلك الليل وسكونه هذا الفتى البائس المسكين منفردًا بنفسه في غرفة عارية باردة لا يتقي فيها عادية البرد بدثار ولا نار، يشكو همًّا من هموم الحياة أو رزء من أرزائها قبل أن يبلغ سنّ الهموم والأحزان من حيث لا يجد بجانبه مواسيًا ولا معينًا، وقد مضى الليل إلا أقله، أو منطويًا على نفسه في فراشه يئن أنين الوالهة الثكلى، بيروت، ص7 – 20. الإبقاء عليه في صدره، وهي صادرة من أعماق نفسه، كأنني أسمع رنينها في أعماق قلبي، فتقدمـــــــــــت إلــــــــــــــــــى خادمي أن يتقدمني بمصباح حتى بلغت منزله وصعدت إلى باب غرفته فأدركني من الوحشة عند دخولها ما يدرك الواقف على باب قبر يحاول أن يهبطه ليودع ساكنه الوداع الأخير، ثم دخلت ففتح عينيه عندما أحس بي وكأنما كان ذاهلا أو مستغرقا، فأدهشه أن يرى بين يديه مصباحا ضئيلا ورجلا لا يعرفه فلبث شاخصا إليّ هنيهة لا ينطق ولا يطرف فاقتربت من فراشه وجلست بجانبه، وقد سمعتك الساعة تعالج نفسك علاجا شديدًا وعلمت أنّك وحدك في هذه الغرفة فعناني أمرك فجئتك علني أستطيع أن أكون لك عونا على شأنك، وأرجو أن تكون أحسن حالا من ذي قبل، قال: أرجو أن أكون كذلك، وهل تشكو داء ظاهرا أو هما باطنا؟ قال: أشكوهما معا، فإنّ من يحمل في صدره قلبا شريفا مثل قلبك، أنا فلان بن فلان، فكان لا يرانا الرائي إلا ذاهبين إلى المدرسة أو عائدين منها، أو رسم نتبارى في إتقانه، وتلك الحفائر الصغيرة التي نحتفرها ببعض الأعواد على شاطئ الجداول والغدران فنملؤها ماء، ثم نجلس حولها لنصطاد أسماكها التي ألقيناها فيها بأيدينا فنطرب إن ظفرنا بشيء منها كأنا قد ظفرنا بغنم عظيم، وتلك الأقفاص الذهبية البديعة التي كنا نربي فيها عصافيرنا وطيورنا، ولا أعلم هل كان ما كنت أضمره في نفسي لابنة عمي ودا وإخاء، ولكنني أعلم أنه كان بلا أمل، فما قلت لها يوما إني أحبها لأني كنت أضن بها - وهي ابنة عمي ورفيقة صباي- أن أكون أول فاتح لهذا الجرح الأليم في قلبها، لأني كنت أجلها عن أن أنزل بها إلى مثل ذلك، ولا فكرت يوما أن أستشف من وراء نظراتها خبيئة نفسها لأعلم أي المنزلتين أنزلها من قلبها، أمنزلة الأخ فأقنع منها بذلك، أم منزلة الحبيب، فأستعين بإرادتها على إرادة أبويها ؟ بل كان حبي لها حب الراهب المتبتل صورة العذراء الماثلة بين يديه في صومعته يعبدها ولا يتطلع إليها. وحالا غريبة لا عهد لي بمثلها من قبل فتداخلني الهم واليأس ووقع في نفسي للمرة الأولى في حياتي أنني قد أصبحت في هذا المنزل غريبا، فإني لجالس في غرفتي صبيحة يوم إذ دخلت عليّ الخادم، وكانت امرأة من النساء الصالحات المخلصات فتقدمت نحوي خجلة متعثرة، وقالت: قد أمرتني سيدتي أن أقول لك يا سيدي إنها قد عزمت على تزويج ابنتها في عهد قريب، وإنها تريد أن تتخذ للزوجين مسكنا هذا الجناح الذي تسكنه من القصر فهي تريد أن تتحول إلى منزل آخر تختاره لنفسك من بين منازلها على أن تقوم لك فيه بجميع شأنك وكأنك لم تفارقها. فكأنما عمدت إلى سهم رائش فأصمت به كبدي، فانصرفت لشأنها فخلوت بنفسي ساعة أطلقت فيها السبيل لعبراتي ما شاء الله أن أطلقها حتى جاء الليل فعمدت إلى حقيبتي فأودعتها ثيابي وكتبي، وقلت في نفسي: "قد كان كل ما أسعد به في هذه الحياة أن أعيش بجانب ذلك الإنسان الذي أحببته وأحببت نفسي من أجله، لعمرك ما فارقت بغداد عن قلـــــى لو أنا وجــــدنا من فراق لها بدّا فراق لا لقاء بعده، فرحلت رحلة طويلة قضيت فيها بضعة أشهر لا أهبط بلدة حتى تنازعني نفسي إلى أخرى، حتى شعرت في آخر الأمر بسكون في نفسي يشبه سكون الدمع المعلق في محجر العين لا يفيض ولا يغيض. فقنعت بذلك، وكان ميعاد الدراسة السنوية قد حان فعدت، وأن ألهو بشأن نفسي عن كل شأن سواه، ولم يبق أثر لذلك العهد القديم في نفسي إلا نزوات تعاود قلبي من حين إلى حين فأستعين عليها بقطرات من الدمع أسكبها من جفنيّ في خلوتي من حيث لا يعلم إلا الله ما بي فأجد برد الراحة في صدري. لبثت على ذلك برهة من الزمان حتى عدت بالأمس إلى تلك الفضلة التي كانت في يدي من المال فإذا هي ناضبة أو موشكة، وكنت مأخوذًا بأن أهيئ لنفسي عيشا مستقلا، ولا أعرف سبيلا إلى القوت بوجه ولا حيلة، فعمدت إلى كتبي فاستبقيت منها ما لا غنى لي عنه وحملت سائرها إلى سوق الوراقين فعرضته هناك يوما كاملا فلم أجد من يبلغ به في المساومة ربع ثمنه فعدت به حزينا منكسرا وما على وجه الأرض أحد أذل مني ولا أشقى. قلت: ماذا تريدين؟ قالت: لي إليك كلمة فائذن لي، فصعدت معها إلى غرفتي، فراعني بكاؤها وخفت أن يكون قد حل بالبيت الذي أحبه بأس، فما أخباره؟ فمدت يدها إلى ردائها وأخرجت من أضعافه كتابا مغلقا فتناولته منها ففضضت غلافه فإذا هو بخط ابنة عمي فقرأت فيه هذه الكلمة التي لا أزال أحفظها حتى الساعة "إنك فارقتني ولم تودعني فاغتفرت لك ذلك. ثم دارت بي الأرض الفضاء دورة سقطت على أثرها في مكاني لا أشعر بشيء مما حولي فلم أفق إلا بعد حين؛ ففتحت عينيّ فإذا الليل قد أظلني وإذا الخادم لا تزال بجانبي تبكي وتنتحب فدنوت منها وقلت: أيتها المرأة أحق ما تقولين؟ قالت: نعم، إن ابنة عمك يا سيدي لم تنتفع بنفسها بعد رحيلك فقد سألتني في اليوم الذي رحلت فيه عن سبب رحيلك فحدثتها حديث الرسالة التي حملتها إليك من زوجة عمك فلم تزد على أن قالت: "وماذا يكون مصير هذا البائس المسكين! إنهم لا يعلمون من أمره ولا من أمري شيئا"، وما هي إلا أيام قلائل حتى سرى داء نفسها إلى جسمها فاستحالت حالها وغاض ماء جمالها وانطفأت تلك الابتسامات العذبة التي كانت لا تفارق ثغرها ثم سقطت على فراشها مريضة لا تبل يوما حتى تنتكس أياما فراع أمها أمرها وورد عليها ما قطعها عن ذكر العرس والعروس والخطبة والخطيب وكانت لا تزال تهتف بذلك نهارها وليلها فلم تدع طبيبا ولا عائدا إلا فزعت إليه أمرها فما أغنى العائد ولا الطبيب وأصبحت الفتاة تدنو من القبر رويدا رويدا. فقد هجع أهل البيت جميعا، ولكني أشفقت على هذا الخيط الرقيق الباقي في يدها من الأمل أن ينقطع فينقطع بانقطاعه آخر خيط من خيوط أجلها، فأشارت أن آتيها بمحبرتها فجئتها بها فكتبتْ إليك هذا الكتاب الذي تراه فلما أصبح الصباح خرجتُ أسائل الناس عنك في كل مكان وأتصفح وجوه الغادين والرائحين علني أراك وأرى من يهديني إليك فلم أظفر بطائل حتى انحدرت الشمس إلى مغربها فعدت إلى المنزل وقد مضى شطر من الليل فما بلغته حتى سمعت الناعية فعلمت أن السهم قد بلغ المقتل، وما رئي مثل يومها يوم كان أكثر باكية وباكيا. ففاتها ذلك وسقطت دون أمنيتها، فلم أزل كاتمة أمر الرّسالة في نفسي ولم أزل أتطلب السبيل إليك حتى وجدتك. فشكرت لها صنيعها وأذنتها بالانصراف فانصرفت. فما انفردت بنفسي حتى شعرت أن سحابة سوداء تهبط فوق عينيّ شيئا فشيئا حتى احتجب عن ناظري كل شيء، * * * فشعرت أنه يهمهم ببعض كلمات فأصغيت إليه فإذا هو يقول: وأن الضربة التي أصابت قلبي قد سحقته سحقا فلم يبق فيه حتى الذماء وإني أستحييك أن أمد يدي إلى هذه النفس التي أودعتها بيدك بين جنبي فأنتزعها من مكانها وألقي بها في وجهك ساخطا ناقما، فنعم الدار دارك ونعم الجوار جوارك". ثم أمسك رأسه بيده كأنما يحاول أن يحبسه عن الفرار وقال بصوت ضعيف خافت: أشعر برأسي يحترق احتراقا وقلبي يذوب ذوبًا،